عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 40

صورة المَسْرود له في البرزخ

خلال الموسمين الجامعيين الأوليْن، سارت أموري كما ينبغي على مستوى النّتائج؛ أمّا على مستوى الأداء فقد كان بإمكاني تقديم الأفضل لو أنّني كنتُ أنضبط وأحضر محاضَرات الموادّ الشّفهية. كانت غياباتي عن هذه المحاضَرات كثيرةً إلى درجة أنّ أول سؤال كان يُبادرني به كثير من الأساتذة عندما أجلس أمام أحدهم (ضمن مجموعات): “لماذا لم تكن تحضرُ دروسي؟ أما بعضهم فكانوا يُطيلون التّحديقَ في صورتي على بطاقة الطالب ثمّ في وجهي؛ بُغية التأكد من أنّ الأمر يتعلق، فعلاً، بالشّخص ذاته!

كان مجموع النقط التي أحصل عليها في المواد الشّفهية هزيلاً على الدّوام، مُقارَنةً بنقط الامتحانات الكتابية؛ بَيْدَ أنّ ذلك لم يكن يمنعني من الانتقال، كلَّ عام، إلى القسم المُوالي.

في منتصَف السّنة الجامعية الثالثة، استقبلتْ شعبة اللغة العربية وآدابها أحدَ الرّوائيين المغاربة ضمن نشاط ثقافيّ، احتفاءً بصدور إحدى رواياته. ولأنّني كنتُ من المُهتمّين بالرّواية وكنتُ أنوي اختتام دراستي الجامعية ببحثٍ في هذا الجنس الأدبي؛ لم يتأخّر أستاذ مادّة “الرّواية” في اختياري لأكون، رفقةَ طالب آخر، ضمن المُشاركين في إحدى فقرات الاحتفاء بالرّوائيّ. عكفتُ، بمساعدة الأستاذ وتأطيره، على إعداد دراسة حول “صوت السّارد في رواية البرزخ” لصاحبها عمر والقاضي، حديثة الصّدور حينذاك.

في ساعة التظاهرة، كان المُدرّج يعُجّ بالطلبة والأساتذة. ورغم أنّني ظللتُ أتفادى، ما أمكنني، هذا النوع من الأنشطة فقد وجدتُ نفسي في قلب الحدث.

عندما حان دوري لتقديم مداخلتي واتّخذتُ مجلسي في المنصّة المُخصّصة للمشاركين في النّدوة وجُلتُ بنظري بين الحضور، هالَني الموقفُ الذي أنا فيه. كان الطلبة ممّن تعرّفوا عليّ يتراشقون بالتّعليقات والتّلميحات الضّاحكة. بعضُهم لوّحوا لي بالأيدي، وبعضُهم نادوني باسمي وحثني آخرون على أنْ “أُحمِّر لهم الوجه”. داخلني الارتباك وضاعتْ منّي الكلمات؛ لكنْ سرعان ما ركّزتُ على الأوراق أمامي وتجاوزتُ مرحلةَ الاضطراب. وعندما انتهيتُ من تقديم ورقتي وتعالتِ تصفيقات الحضور، انتابني إحساسٌ غريب وقلتُ لنفسي، شامتاً ربّما: “ها قد صرتَ شخصاً مُهمّاً يا وْلد السّي بُوجمعة، تُجالسُ الأساتذة وتتناول الكلمةَ وسط الحشود الغفيرة”. (تّرحّمو مْعايَ عْلى السّي بوجْمعة ولالّة عيشة فهاد النّهارْ)..

أعادني إلى الأرض صوتُ الأستاذ المُسيّر وهو يشكرني على مُنجَزي، قبل أن يفتح باب الأسئلة والتدخّلات. تَصبّب عرقٌ غزير تحت إبطـَيّ وأنا أتطلع إلى الطلبة أمامي أستعطفهم، بنظراتي، ألا “يُحمّروا وجهي”، من جانبهم، بإثارة أسئلة مُعْدَّسة. لكنّ الأمور لم تكن بكل التعقيد الذي تصوّرت؛ ومرّت الصّبحية الثقافية في المُجمَل، بسلام.

كان ضمن برنامج الأيام الدّراسية أنْ نذهب في ذلك اليوم، رفقةَ الأساتذة المُشارّكين، لتناول وجبة الغداء في إحدى القرى السّياحية في أطراف المدينة. وهناك، أذكر، أنّني وجدتُ نفسي، كما حال محمد، زميلي الطالب الصّحراوي، مُجبرَين على استعمال الشّوكة والسّكين في الأكل لأول مرّة في حياتنا.. حاولنا، عبثاً، مجاراة ضيوف الكلية “المُحترَمين” في طريقتهم المُضحِكة في الأكل، قبل أن نضع الأداتين المعدنيتين جانباً ونشرع في إرسال الأطعمة إلى معدتينا بالطريقة المغربية، ونحن نتبادل تعليقات ضاحكة.

كان ذلك اليوم الدّراسي وما عشت فيه من مواقفَ ذكرى جميلة احتفظتُ بها في ذاكرتي، ضمن أخريات، من أيام السّنوات الأربع التي قضيتُها في كلية الآداب، ذاتَ مُرّاكش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *