إعداد: إلياس زهدي

حلقة 4
المعطف -نيكولاي غوغول

(1809 -1852)

(3/1)

في إحدى الإدارات كان يعمل أحد الموظفين؛ موظف لا نستطيع أن نقول عنه إنه كان بارزا جدا. بل كان قصير القامة، مجدوراً إلى حدٍّ ما وأحمر الشعر إلى حد ما. بل ويبدو أعمش إلى حد ما، بصلعة صغيرة فوق الجبين وتجاعيد على كلا الخدين. أما لون وجهه فكان -كما يقال- بواسيريا. وما العمل؟! الذنب في ذلك ذنب جو بطرسبورغ. أما في ما يتعلق برتبته (لأن من الضروري عندنا أن نعلن الرتبة قبل كل شيء) فقد كان ممن يسمون “المستشارين الاعتباريين”(1) الخالدين، الذين سخر منهم وهزئ بهم ما وسعهم، كما هو معروف، شتى الكُتّاب من ذوي العادة المحمودة في التهجم على أولئك الذين لا يحسنون العض.

كان اسم عائلة الموظف “بشماتشكين”. وكان اسم الموظف أكاكي “أكاكيفتش”. أما متى وفي أي وقت التحق بالإدارة، ومن الذي ألحقه بها، فهذا ما لم يستطع أحد أن يتذكره؛ فمهما تغير المدراء والرؤساء فقد كان الجميع يرونه دائماً في المكان نفسه وفي الوضع نفسه وفي الوظيفة نفسها؛ أي موظف كتابة، حتى أنهم آمنوا في ما بعد بأنه، على ما يبدو، قد وُلد هكذا جاهزا في حلته الرسمية وبصلعة في رأسه. لم يكن يحظى في الإدارة بأي احترام؛ فالحراس لم يكونوا ينهضون عند رؤيته، وليس هذا فحسب، بل لم يكونوا ينظرون إليه حتى، كما لو أن مجرد ذبابة طارت عبر صالة الاستقبال. أما الرؤساء فكانوا يعاملونه بطريقة باردة. فأي مساعد من مساعدي الرئيس القلم كان يدسّ الأوراق تحت أنفه مباشرة حتى دون أن يقول له «انسخها»، أو «هاك عملا طريفا طيبا»، أو أية كلمات طيبة كما هي العادة في المكاتب المهذبة. أما هو فكان يتناول الأوراق متطلعا إليها وحدها دون أن ينظر إلى من قدّمها له وهل يملك الحق في ذلك أم لا. كان يتناولها ويشرع على الفور في نسخها. وكان الموظفون الشبان يسخرون منه وينكتون عليه بقدر ما كانت تسمح به روح النكتة المكتبية ويروون أمامه شتى الحكايات التي ألّفوها عنه ويقولون عن مدبرة بيته، وهي عجوز في السبعين من عمرها، إنها تضربه ويسألونه متى سيحتفلون بزواجهما ويهيلون الأوراق على رأسه قائلين إنه الثلج يسقط.

ولكن أكاكي أكاكيفتش لم يكن يرد على ذلك بكلمة واحدة، كأنما لم يكن يقف أمامه أحد. بل إن ذلك حتى لم يؤثر على عمله، إذ لم يكن يرتكب خطأ واحداً في الكتابة وسط كل هذه السخريات. وفقط عندما تكون النكتة غير محتمَلة، وعندما كانوا يدفعونه بذراعه، فيعوقونه عن العمل، كان يقول «دعوني في حالي! لماذا تهينونني؟».. كان يبدو ثمة شيء غريب في كلماته وفي الصوت الذي قيلت به؛ كان فيها شيء غريب في الشفقة، حتى أن موظفاً شاباً التحق بالوظيفة حديثاً وكان قد سمح لنفسه بالسخرية منه كما يفعل الآخرون، توقف فجأة كالمصعوق.

ومنذ ذلك اليوم بدا وكأن كل شيء قد تغير أمام عينيه وتبدّى في صورة أخرى. ودفعته قوة غير طبيعية مجهولة بعيداً عن زملائه الذين صاحبهم باعتبارهم أشخاصا محترمين مهذبين. وظل هذا الموظف بعد ذلك، ولفترة طويلة، وفي أوج لحظات المرح، يتذكر الموظف القصير ذا الصلعة فوق الجبين بكلماته النافذة: «دعوني في حالي! لماذا تهينونني؟».. وترن في هذه الكلمات النافذة كلمات أخرى: «أنا مثل أخيك». فكان الشاب المسكين يغطي وجهه بيديه ويرتجف مرات ومرات عديدة بعد ذلك طوال عمره وهو يرى ما في الإنسان من لاإنسانية، وإلى أي مدى تختفي الفظاظة الوحشية في التهذيب الراقي المرهف؛ ويا إلهي! حتى في ذلك الإنسان الذي يعُدّه المجتمع نبيلاً وشريفاً. ومن النادر أن تجد شخصا يتفانى في عمله إلى هذا الحد. فلا يكفي أن نقول إنه كان يعمل بغيرة، كلا، لقد كان يعمل بعشق. كان يرى في ذلك النسخ عالما خاصا به، عالما متنوعا ولطيفا. وكانت المتعة تتجلى في وجهه. كانت بعض الحروف أثيرة لديه، وعندما يبلغها لا يعود يسيطر على نفسه. كان يضحك ويغمز بعينه ويساعد بشفتيه على كتابتها، حتى أنه كان يبدو أنّ بالإمكان أن تقرأ على وجهه الحرف الذي كان قلمه يخط. ولو أنهم كافؤوه بقدر حميته فربما أصبح، ولدهشته هو، من مستشاري الدولة(2).

ولكنه، وكما قال زملاؤه المازحون، نال من الخدمة فتلة في عروة وفاز بمرض البواسير وألم الظهر. وعموما، لا يمكن أن نقول إنه لم يحظ بأدنى اهتمام؛ فقد أراد أحد المدراء، وكان رجلا طيبا، أن يكافئه على النسخ، فكلفوه بأن يعدٌ مذكرة من واقع ملف جاهز بالفعل لإرسالها إلى جهة أخرى. ولم يكن الأمر يتعدى أكثر من تغيير العنوان الرئيسي وتعديل بعض الأفعال من صيغة المتكلم إلى الغائب. ولكنه كلفه من الجهد ما جعله يعرق تماما ويحكّ جبينه، وأخيرا قال: «كلا، من الأفضل أن تعطوني شيئاً ما أنسخه». ومنذ ذلك اليوم أبقوه في النسخ إلى الأبد. وكان يبدو أنه لا يوجد بالنسبة إليه أي شيء خارج هذا النسخ. لم يكن يفكر في ملابسه أبدا؛ فحلته لم تكن خضراء اللون، بل ذات لون أحمر طحيني ما. وكانت ياقتها ضيقة، قصيرة، حتى أن عنقه، رغم أنه لم يكن طويلاً، كان يبرز من الياقة ويبدو طويلاً بصورة غير عادية. وكان يعلق بحلته دائما شيء: قطعة قش أو خيط ما. وإضافة إلى ذلك كانت لديه مهارة خاصة أثناء سيره في الشارع في أن يوجد تحت النافذة بالضبط في الوقت الذي يلقون منها شتى الفضلات، ولذلك كان يحمل على قبعته دائما قشر البطيخ والشمام وغير ذلك من التفاهات.

لم يحدث مرة واحدة في حياته أن التفت إلى ما يجري ويحدث كل يوم في الشارع، ولا حتى إلى ما ينظر دائما إليه أخوه الموظف الشاب، كما هو معروف، والذي تمتد نظرته الثاقبة النشطة إلى حد أنه يلاحظ على الرصيف الآخر من تفتقت ربطة ساق سرواله، ما يجعل الابتسامة الخبيثة تظهر على وجهه. أما أكاكي أكاكيفتش فحتى لو نظر إلى شيء فما كان ليرى فيه سوى سطوره النظيفة المكتوبة بخط منمق، اللهم إلا إذا استقرّت على كتفه فجأة سحنة حصان لا يعرف أحد من أين جاءت ونفثت بمنخاريها في خده ريحا قوية؛ عند ذاك فقط كان يلاحظ أنه ليس في وسط السطر، بل على الأرجح في وسط الشارع.

وعندما يعود إلى المنزل كان يجلس على الفور إلى المائدة، فيلتهم بسرعة حساء الكرنب وقطعة لحم البقر بالبصل، دون أن يحس، أبدا، بطعمها. وكان يأكل ذلك مع الذباب وكل ما كان الله يرسله في تلك الساعة. وعندما كان يلاحظ أن معدته بدأت تنتفخ ينهض من أمام المائدة ويستخرج دواة الحبر ويبدأ في نسخ الأوراق التي جاء بها معه إلى البيت. فإذا لم تكن لديه مثل هذه الأوراق كان ينسخ واحدة لنفسه، فقط من أجل المتعة الشخصية، خاصة إذا كانت الورقة رائعة، ليس من حيث جمال صياغتها، بل من حيث أنها مرسلة إلى شخصية جديدة أو مهمّة.

حتى في تلك الساعات التي تنطفئ فيها تماما سماء بطرسبورغ الرمادية، وبعد أن تكون جماعة الموظفين كلهم قد تعشّوا وشبعوا، كلّ منهم حسب ما يتقاضى من مرتب وحسب رغباته الخاصة، وبعد أن يكون الجميع قد ارتاحوا من صرير أقلام الإدارات والركض بعد أداء الأعمال الخاصة وأعمال الآخرين الضرورية؛ بعد كل ما يكلف به نفسه عن طواعية الإنسان الذي لا يهدأ، بل وبأكثر مما ينبغي… عندما يسرع الموظفون إلى تخصيص ما تبقى من وقت للمتعة؛ فالأنشط منهم ينطلقون إلى المسرح. ومنهم من يخرجون إلى الشارع مخصصين هذا الوقت للتطلع إلى بعض القبعات. ومنهم من يذهبون إلى حفل ما ليقضوا الوقت في التغزل بفتاة ما مليحة تعد نجمة من نجوم أوساط الموظفين الضيقة. ومنهم من يذهبون، وهؤلاء هم الأكثر، إلى أخيه الذي يسكن في الطابق الرابع أو الثالث، في شقة من غرفتين صغيرتين ومدخل أو مطبخ وببعض ادّعاءات الموضة، كمصباح مثلا أو قطعة أثاث كلفت أصحابها تضحيات كثيرة وحرمانا من وجبات الغداء والنزهات…

وباختصار، فحتى في الوقت الذي يجتمع الموظفون في شقق زملائهم الصغيرة ليلعبوا الورق وهم يرشفون الشاي مع قطع الخبز المحمص الرخيص وينفثون الدخان من الغلايين الطويلة ويروون أثناء توزيع الورق شائعة ما وردت من المجتمع الراقي… وباختصار أكثر، حتى عندما يسعى الجميع إلى اللهو فإن أكاكي أكاكيفتش لم يكن يلجأ إلى أي لهو ولا يستطيع أحد أن يقول إنه رآه في وقت ما في إحدى الحفلات. فبعد أن يشبع من النسخ يأوي إلى فراشه وهو يبتسم سلفاً مفكرا في الغد؛ فغدا سيرزقه الله بشيء ما لينسخه…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *