إعداد: إلياس زهدي

حلقة 3
مكيدة شيطانية -ليو تولستوي

(1910– 1828)

 

 

في صبيحة يوم من الأيام، خرج قروي من كوخه المتواضع يحمل تحت إبطه فطور يومه، موليا وجهته نحو حقله. وما إن وصل إليه حتى خلع معطفه ورمى به تحت إحدى الشجيرات، بعدما لف فيه كسرة الخبز. بعد ذلك شرع في العمل. وبعدما أنهكه الجوع وأضنى التعب حصانه، أطلق سراحه وجلس هو ليأكل ما أعده للفطور. فلما تفقد الخبز لم يجده بين طيات ثيابه، فأخذ يقلب المعطف بين يديه ويدقق النظر في كل جزئياته. ولكنْ عبثا كان يحاول، لأن الشيطان كان قد سبقه إلى الشجيرة وسرق ما في المعطف من الطعام، ثم جلس منتظرا صخب القروي ولعناته على سارق الخبز.

لكن ظن الشيطان خاب، لكون القروي على الرغم مما حل به من الأسف لم يتأثر لفقد الطعام كثيرا وقال في نفسه “ما علي سوى الصبر، فإن الجوع ليس بقاتلي. وربما كان الآخذ في حاجة إلى ذلك الخبز فليهنأ به”. قال قولته وتوجه توا إلى بئر قريبة منه وأطفأ ظمأه وارتاح قليلا من عناء العمل، ثم عاد وأمسك بعنان حصانه واستأنف العمل من جديد.

أما الشيطان فقد استاء من تصرف القروي، إذ وجده أعقلَ من أن يقع في الخطيئة؛ فقرر أن يخبر رئيسه بالأمر. وبالفعل، ذهب في الحال إلى إبليس وقص عليه الحكاية وكيف أن القروي لم يعبأ بفقد الخبز ولم يسخط على سارقه، بل تمنى له الهناء والسرور. فما كاد إبليس يسمع ذلك حتى غلى مرجل حقده وانتهر تلميذه الشيطان قائلا

-إنما اللوم في ذلك راجع إليك، لأنك لم تقم بمهمتك كما يجب. واعلم أن القرويين إذا بدؤوا يسيرون على هذا المنوال واقتفت أثرَهم في ذلك زوجاتهم فالويل لنا، نحن معشر الأبالسة. فالأمر خطير لا يحق لنا أن نتغافل عنه. انكص على عقبيك سريعا وأصلح خطأك هذا. وإن لم تنتصر على ذلك القروي الساذج في ظرف ثلاث سنين فسأريك كيف يكون جزاء الإهمال.

عاد الشيطان إلى الأرض مسرعا وهو ينتفض فرقا وقد تقطعت نياط قلبه من تهديد الرئيس. وأخذ منذ تلك اللحظة يفكر في حيلة يوقع بها ذلك القروي المسكين في حبائله.

وأخيرا، اهتدى إلى حل وجده كفيلا بنجاحه. تنكّر في زي أحد العمال وتمكن من أن يدخل في خدمة القروي.

في عامه الأول نصحه بأن يبذر حبوبه في أرض رطبة، فعمل القروي بنصيحته. وكان الجو من حسن حظه جافا فأنتجت الأرض محصولا وفيرا مكّن الفلاح من ملء مخازنه وأصبحت لديه كميات وافرة من القمح تزيد عن حاجاته. وفي عامه الثاني عاد الشيطان إلى القروي ينصحه بأن يبذر حبوبه على ربوة من الأرض. فجاء وقت الحصاد وكان الصيف رطبا فاستفاد القروي من النصيحة وتوفر لديه الكثير من القمح يربو عما جناه في العام الأول. فحار في أمره ولم يدر ما يصنع بكل ذلك القمح الكثير، فوسوس إليه الشيطان أن يستخرج منه نوعا من الخمر ففعل. وكان الخمر المستخرَج قويا شديد التأثير. سُرّ القروي بهذا الاكتشاف وأخذ يشرب منه هو وزوجته وأهدى إلى أصدقائه كميات منه.

عند ذلك ذهب الشيطان إلى رئيسه فرحا، مستبشر،ا وقص عليه ما فعل لإغواء القروي. قام إبليس مسرعا ليشاهد الأمر بنفسه ويتحقق صدق مقاله. فلما وصلا إلى منزل القروي وجدا أن صاحب المنزل يستعد لحفلة ساهرة دعا إليها كل جيرانه الأعزاء. ثم رأيا وفود المدعوين تتقاطر على المنزل جماعات وأفرادا، وصاحبة الدار قائمة بخدمتهم؛ تدور عليهم بالأواني.

وإذ هي كذلك تعثرت فوقعت الأواني من يدها وسال الخمر على الأرض. انفجر زوجها القروي غضبا وصاح بها:

-ماذا دهاك أيتها العسراء حتى أرقت هذه الخمرة اللذيذة على بساط الغرفة؟ أظننت أن ما بين يديك من ماء البئر حتى أخذت في إتلافه وتبذيره؟

وما كاد الشيطان يسمع هذه الكلمات حتى غمز رئيسه إبليس قائلا:

-أسمعتَ كلام القروي الساذج، الذي لم يهتم لفقدان كسرة خبز؟

وبينما كان القروي ينهر زوجته ويلومها على فعلتها إذا بقروي فقير يدخل عليهم متطفلا ويستوي جالسا على المائدة ينتظر إكرام صاحب الدار. ولما طال به الجلوس تململ صاحب المنزل في جلسته وتمتم يقول:

-أنا ليس بوسعي أن أقدّم شرابا لكل من يتطفل على موائدنا.

فسمع إبليس هذه الكلمات وسرٌ في نفسه بهذه النتيجة، إلا أن تلميذه الشيطان قال وهو يبتسم:

-انتظر قليلا فسترى ما هو أعجب!

وفعلا، ما كاد يتم جملته حتى كان القوم قد أخذتهم نشوة الخمر فأصبحوا يخادعون بعضهم البعض بألفاظ ملؤها التملق والرّياء. وعند ذلك قال إبليس:

-إذا كان بعض الخمر يجعلهم على هذه الحال، يراوغون كالثعالب ويتملقون بعضهم البعض، فإنك ستراهم عقب الكأس الثانية كالذئاب المفترسة، ينهشون لحوم بعضهم البعض.

فما كاد الشيطان يتم كلماته حتى كان الشراب يدور على القوم ثانية. ثم انتفت بينهم دواعي الحشمة والوقار وأصبحوا يتبادلون فحش الكلام والألفاظ. ثم وصل بهم الأمر إلى الضرب فتبادل اللكمات. فشعّ وجه إبليس بِشرا وهنّأ تلميذه بذلك الفوز الباهر قائلا:

-هذه الخطوة الأولى في سبيل النصر.

فأجابه تلميذه:

-انتظر حتى النهاية ترَ ما هو أغرب.. فإنهم الآن كالذئاب، يكاد أحدهم يفترس رفيقه، ولكنك ستراهم كالخنازير، عقب الكأس الثالثة.

عندما دارت الكؤوس عليهم مرة ثالثة، علت أصواتُهم وزاد صخبهم وأصبح كل منهم يلعن ويشتم بلا سبب ومن غير داع. وبعد برهة، انفرط عقد جمعهم وأخذوا ينسلون من مكان الدعوة جماعات ووحدانا، يترنحون سكرا ويتمايلون ذات اليمين وذات الشمال. فذهب المضيف في أثرهم ليودعهم، ولكنه ما كاد يخطو بضع خطوات حتى تعثر في مشيته فوقع في حفرة مملوءة بالأوحال وتلطخ من قمة رأسه حتى أخمص قدميه. ازداد إبليس لهذا المنظر بهجة وسرورا والتفت إلى تلميذه يقول:

-لله درك، فقد كان نجاحك باهرا وفوزك مبينا، ولكنْ أخبرني كيف صنعت هذا الشراب؟ فلا ريب أنك أضفت إليه بضع قطرات من دم الثعالب، وهذا ما حدا بهم لأن يراوغوا ويتملقوا بعضهم البعض.. ثم أظن أنك أضفت إليه بعضا من دم الذئاب، إذ كانت نتيجة ذلك أنهم أصبحوا كالذئاب العاوية. وأخالك أتممت العمل بوضع قطرات من دم الخنزير، حتى أصبحوا يماثلون الخنازير عقب الكأس الثالثة؟!..

قال الشيطان:

-كلا، لم تصب كبد الحقيقة، فليست هذه هي الطريقة.. كل ما في الأمر أني بذلت ما في وسعي لأن أجعل ذلك القروي يملك حبوبا أكثر مما يحتاج إليه، فالإنسان بطبعه تجول في عروقه دماء الحيوانية على الدوام وتظل هذه الغريزة كامنة في نفسه طالما كان يملك من حطام الدنيا أقل من ضرورياته، يدلّ على ذلك ما أظهره القروي عندما تحرشتُ به في بادئ الأمر، ولكنه ما كاد يتوفر لديه أكثر مما يحتاج إليه حتى أعماه الغنى وتمادى به الغرور. أخذ يبحث عن دواعي الملاهي والسرور. وهنا سنحت الفرصة لإغوائه، فأخذت بيده إلى طريقة من طرق الغواية، إذ أرشدته إلى صنع الخمر، فاستلذها المسكين، لسوء حظه، وشربها عذبة سائغة. فكان في ذلك كالساعي إلى حتفه بظلفه، فإنه ما كاد يكفر بأنعم الله حين أعطيته خمرة تذهب برشده حتى ظهر ما كمن في نفسه من تلك الدماء الخبيثة، دماء الحيوانية، فأصبح وحشا ضاريا بعد أن كان بشرا سويا، وهو يظل كذلك وحشا مفترسا بعيدا عن مناهج الإنسانية طالما بقي يعاقر تلك المادة الدنسة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *