عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 37


أكلةُ البطاطس.. التّجربة المغربية

قالتِ الأمّ لولدها: كُلِ البطاطسْ! قال الولد: أنا لا آكُل البطاطسْ.
قالتِ الأمّ للعصا: اضربي الولَدْ! قالت العصا: أنا لا أضربُ الولدْ.
قالتِ الأمّ للنار: احرقي العصا! قالت النار: أنا لا أحرق العصا.
قالتِ الأمّ للماء: أطفِئ النارْ! قال الماء: أنا لا أطفئُ النارْ.
قالتِ الأمّ للبقرة: اشربي الماء! قالت البقرة: أنا لا أشربُ الماءْ.
قالتِ الأمّ للسكّين: اذبحي البقرة! قالت السّكين: أنا لا أذبحُ البقرة.
قالتِ الأمّ للحدّاد: اكسر السّكين! قال الحدّاد: أنا لا أكسرُ السّكينْ.
قالتِ الأمّ للحبل: أوْثق الحدّاد! قال الحبل: أنا لا أوثقُ الحدّادْ.
قالتِ الأمّ للفأر: اقرض الحبل! قال الفأر: أنا لا أقرضُ الحبلْ.
قالت الأم للقط: كُلِ الفأر!…

عند هذه النقطة انتهت حالةُ العصيان المُستفزّ والرّفض القاطع لتنفيذ أوامر بطلة هذه القصّة الجميلة من زمن المدارس الحكومية. أوامرُ بدأتها الأمّ بأمر صغيرها بتناول البطاطس فرفَض؛ رفضٌ ستحاول الأمّ إيجادَ حلّ له عبْر مُواصَلة أوامرها للنّاس وللحيوانات وللجماد؛ بيد أن أيّاً من أوامرها لم يُصادفْ آذاناً مُصغية إلا أذنَيْ قِط مُتأهّب، دوماً، للانقضاض على عدوّه التاريخيّ الأوحد: الفأر!

هل استلهم المُربّي الجليل أحمد بوكماخ هذه الأقصوصةَ الرّائعةَ من “تُومْ وجيري” أمْ إنّ قصّته ساعدت هذا “الثنائيّ” المعروفَ على أن يَحظيا بكل تلك الشّهرة بين عموم المغاربة؟

تنتهي قصّة الرّائع بوكماخ بمُوافَقة القط على التهام الفأر، الذي ينقلب رفضُه، بدوره، إلى قبولٍ بتنفيذ الأمر، لعله يُفلت بجلده. ومِثلَ الفأر، تُغيّر جميع العناصر التي قادت الانقلاب الرّافضَ لأوامر الأمّ، في البداية، موقفها؛ لتتوالى سلسلة الرّضوخ، تحت التهديد، ليضع “الولدُ” حدّا للحكاية السّهلة/ المُمتعة ويقبَلَ بابتلاع البطاطس. (لم تُخبرنا القصة، بالمُناسَبة، هل هي بطاطس مسْلوقة على الطريقة المغربية المعروفة أمْ هي بطاطس – “فْريتْ” أو “شيبْسْ” أو شكلٌ آخر!؟)..

لأجيال مُتلاحقة، شكّلت هذه الأقصوصة البسيطة/ العجيبة عنصراً رابطاً بين التلاميذ والطلبة، إلى جانب غيرها من القصص المتواترة، على شاكلة القرد والنجّار وسروالُ علي وأحمدُ والعفريت ويوسفُ يُمثل هندياً صغيراً وسعاد في المكتبة وغيرها كثير.. وهكذا استطاعت مُقرّراتُ وزارة التربية وكتُبها، على الأقلّ، أن تُعرّفنا على إبداعات في أدب الأطفال أثبتَ تعلّقُ ذاكرتنا الجمعية بهذه العناوين النموذجية منها وبغيرها أنّ هذا الأدب يمكن أن يَصلُح، كذلك، للكبار..

من بين حسَنات قطعة أكلة البطاطس، كذلك، أنها رسّختْ اسمَ مُبدعِها ومبدع غيرها من نصوص تلك المُقرّرات، المُفتقَدة في زمن تعليمنا المُضطرب الرّاهن. لقد كان اسم بوكماخ جسرَ تواصل بين طالب العلم المغربيّ وبين جزء من ثقافته الوطنية.

في مرحلة الإعدادي، ستترسّخ، أيضاً، أسماءُ كتاب مغاربة آخرين، وإنْ بدرجة أقلَّ حضوراً؛ أمّا مُقرّرات الطور الإعدادي فتغلُب عليها نصوصٌ آتية، في مُعظمها، من ثقافة المشرق العربيّ، وعلى الخصوص من رائدتَي ذلك المشرق: مصر ولبنان.. ومع إقرار مادة دراسة المُؤلَّفات في المرحلة الثانوية، خُصوصاً في شعبة الآداب العصرية، استطاعت أسماءُ أخرى الانضمام إلى قائمة الأدباء المغاربة التي يحتفظ بها كل منّا على حِدة في ذاكرته. ولن يتجادل اثنان حول كون اسم محمد شكري، برائعته “الخبز الحافي”، أولَ أديب مغربيّ يحفر اسمه في ذاكرة الطلبة بعد مرحلة الابتدائيّ، التي تسيّدَ عليها، بدون منازع، أحمد بوكماخ.

مبارك ربيع والطاهر بنجلون ومحمد زفزاف وأحمد بوزفور كان لهم، أيضاً، حضور خاصّ في دائرة اهتماماًت المُبتلِين بِهَوَس المُطالَعة ومُطاردة العناوين في المكتبات، العامة أو الخاصة. وفي مراحل لاحقة، انضافت إلى القائمة أسماء أخرى، مثل محمد برادة ومحمد عز الدين التازي وعبد القادر الشّاوي ومحمد خير الدين (المغبون) وخناتة بنونة وعبد الكريم الطبال والعربي بنجلون وآخرين؛ بما فيها أسماء تعرّضتْ لإقصاء، مُتعمَّد أو غير مقصود، فاستطاعتْ أن تُوصل صوتَها عبر وسائط التّواصل الحديثة، وبينهم مَن أثبتوا بكتاباتهم الرّاقية، مبنًى ومعنًى، أنّهم أحقّ بالتكريس من الكثير من الأسماء المفروضة لسبب أو لآخر؛ وتلك حكاية أخرى.. بَيْدَ أنّ أسماء أدباء المشرق استطاعت اكتساح سوق القراءة في المغرب: جرجي زيدان، بكتاباته “التاريخية”، وجبران خليل جبران، بنَفسه الفلسفيّ التأملي وقدرته العجيبة على التصوير والوصف، واليوسُفَين السّباعي وإدريس، بإبداعاتهما الرّوائية والقصصية المُتميزة، ومحمود درويش وسميح القاسم ومظفر النواب، بأشعارهم الخالدة، ونجيب محفوظ، بشخوصه وأحداثه المُشوقة والطويلة، وأمل دنقل، بأسئلته الحارقة واستشرافاته السّوداوية.. كلّ هؤلاء وغيرُهم أثثوا رفوفَ المكتبات والخزانات بأعمالهم، التي نافسَتْها في الشّهرة والاهتمام مؤلفات الكتاب الغربيين، وخاصّةً منهم الفرنسيين.

أسماءُ كثيرةٌ وعناوينُ متنوعةٌ منحَتْنا، على امتداد مشاويرنا الدّراسية، المُتقاطعة والمُختلفة في نهايتها وتفاصيلها، متعةً كانت تُبعدنا -من وقت إلى آخرَ- عن رتابة وجُمود المُقرّرات والبرامج التعليمية، التي لا تزداد إلا ترهّلا جيلاً بعد آخر..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *