عندما تترهل قبضة الأجهزة الموكول إليها مهمة الرقابة والتفتيش والضبط وترتيب الجزاءات سواء داخل المؤسسات المنتخبة أو المؤسسات العمومية فإن الدجالين والنصابين والمحتالين يتكاثرون مثل الفطر ويشرعون في امتصاص دماء وسرقة أرزاق أصحاب المهن الحقيقيين الذين أفنوا زهرة أعمارهم في الدراسة والتحصيل من أجل الوصول إلى ما وصلوا إليه.

نرى ذلك اليوم في كل المجالات تقريبا، فأطباء التجميل يشتكون من أصحاب صالونات التجميل الذين أصبحوا ينافسون الأطباء في إعطاء خدمات طبية لزبائنهم مثل الحقن بالبوطوكس وعمليات إزالة الأظافر التي تخترق اللحم وعمليات أخرى تتطلب تكوينا خاصا في الطب والتشريح.

أما أطباء الأسنان فيشكون منذ سنوات من اقتحام صناع الأسنان لمجالات اشتغالهم، فرغم أن القانون يمنع على صناع الأسنان الاقتراب من أفواه عباد الله لأن مهنتهم الوحيدة هي صناعة الأطقم التي يعطيهم الأطباء مقاساتها  إلا أنهم يتجاوزون حدود اختصاصهم ويقومون بنزع الأضراس وتركيب الأسنان مع ما يتطلب ذلك من عمليات جراحية تدخل في صميم عمل أطباء الأسنان، وكثيرا ما تسبب هؤلاء الصناع في كوارث صحية لزبائنهم بسبب الأدوات غير المعقمة أو بسبب النزيف أو التعفن.

ومؤخرا سمعنا شكاوى تصدر عن جمعية أخصائيي الترويض الطبي الذين ضاقوا ذرعا بأصحاب محلات لا دبلوم لهم يقدمون خدمات الترويض الطبي بأسعار لا تقاوم، والحال أنهم يتسببون للناس في الضرر أكثر ما يتسببون لهم في النفع بسبب افتقادهم للتكوين العلمي والعملي اللازم.

أما كارثة الكوتشينغ فهذه طامة كبرى ضربت البلد، إذ أصبح كل من قرأ  نتفا من كتب التنمية الذاتية التي تباع على الأرصفة ينصب نفسه خبيرا  في علم النفس وعلم الأسرة والتربية وما إلى ذلك من التخصصات التي تحتاج سنوات من الدراسة والتكوين.

وقد أصبح الأطباء النفسانيون يشتكون بدورهم من هؤلاء الدجالين الذين يستقبلون المرضى مقابل تسعيرة زهيدة لكي يجربوا فيهم نصائحهم الخرقاء وتوجيهاتهم التي يحفظونها من صفحات الكتب ويكررونها كببغاوات أمام كل من يجلس أمامهم. والنتيجة أن كثيرين أصبحوا يهجرون عيادات الأطباء الحقيقيين لكي يجلسوا فوق كنبات الكوتش الذي لم يدرس أي شيء حول علم النفس ولا يحمل أي شهادة في المجال.

ثم هناك مجال الصحافة الذي أصبح ملجأ لكل الفاشلين في دراستهم وأنصاف الأميين أو المطرودين من مهنهم الأصلية أو أصحاب السوابق الإجرامية الذين وجدوا في هذه المهنة التي بلا بواب فرصة لتجريب خبراتهم الإجرامية التي راكموها في حياتهم السابقة.

فأصبحنا اليوم أمام الآلاف من المواقع الإلكترونية التي لا تملك سوى مايكروفون تطبع عليه اسما ينتهي بكلمة “بريس” تمنحه لشخص بلا تكوين ولا تجربة لكي يطارد العمال والولاة وممثلي السلطة المحلية ويغطي نشاطهم.

وهكذا أصبح المسؤولون الترابيين في كل مدينة لديهم جيشهم الإلكتروني الذي يلمع صورتهم ويدافع عنهم ضد كل من يحاول أن يكشف مساوئ مجال نفوذهم الترابي، ولا غرابة في ذلك طالما أن بعض هؤلاء المسؤولين هم من يتكلف بشراء المعدات لهؤلاء الطبالين ويضمن لهم المنح والإعانات، أحيانا من أموال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أي أنهم يستعملون أموال الدولة لتحسين صورهم على حساب صورة المدن والأقاليم التي يسيرون.

وطبعا فأغلب أصحاب تلك المواقع لا تصاريح قانونية لديهم ولا يضعون ملفات لدى النيابة العامة ولا يعترف بهم المجلس الوطني للصحافة ولا وزارة الاتصال ومع ذلك يشتغلون بحرية، رغم أن كبسة زر واحدة من طرف وكالة تقنين الاتصالات ANRT، بعد أمر من النيابة العامة، كفيلة بقطع الولوج لمواقعهم داخل المغرب.

والمصيبة أن الضرر الذي يتسبب فيه هؤلاء الطفيليون على مهنة الصحافة وخيم ويهدد وجود واستمرار الصحافة الجادة التي تشتغل ضمن مقاولات منظمة، إلى الحد الذي بدأنا نسمع فيه الرئيس الجزائري يفتخر بكون بلاده تصدر فيها 180 صحيفة يومية تتكلف الدولة بطباعتها بينما يسخر من المغرب الذي تصدر فيه كما قال خمس صحف.

وهذا طبعا حق أريد به باطل، فالرئيس الجزائري يجري هذه المقارنة لتلميع صورته الباهتة وليس دفاعا عن وضع الصحف في المغرب، لكن ما قاله يبقى صحيحا، فالصحف في المغرب تعاني بسبب تكلفة الطبع أساسا، ولو تحملت الدولة كما يحدث في الجزائر هذه التكلفة لحددنا درهما واحدا لبيع الجريدة عوض خمسة دراهم التي يذهب أغلبها لدفع تكاليف الورق والطبع والتوزيع.

أما حديثه عن حوالي 35 قناة تلفزيونية جزائرية تبث من الخارج وإعطائه مهلة شهر لإصدار قانون السمعي البصري لكي تبث هذه القنوات من داخل التراب الجزائري فنحن في المغرب سبقناه لذلك بسنوات عندما أصدرنا قانونا لتحرير المجال السمعي البصري، سوى أننا أصدرنا القانون وجمدنا تراخيص إنشاء القنوات الخاصة بسبب كعكة الإشهار التي لا تكفي للجميع. ويبدو أن الوقت قد حان للقطع مع هذا التفكير المادي في قطاع حساس يدخل ضمن أسلحة القوى الناعمة التي يجب أن تتوفر للدولة لخوض حروب الدفاع عن الهوية والثوابت والشخصية المغربية ضد الاختراق الأجنبي الذي تمارسه القنوات الأجنبية.

لقد تسامحت السلطات مع التجارة غير المهيكلة وجحافل الفراشة الذين أصبحوا يسدون مداخل العمارات وأبواب منازل الناس فانتهت بتدمير القطاع المهيكل وصرنا نسمع كل يوم عن عشرات المقاولات تكون يوميا إلى أن ودعنا في سنة 2021 حوالي 10556 مقاولة إلى دار البقاء.

وتسامحت السلطات ومدراء الأحواض المائية مع حفر الآبار العشوائية على طول تراب المملكة، بحيث أن المقدمين والقياد يعرفون شبرا شبرا مكان كل بئر تم حفره، وها نحن اليوم نواجه جفاف المياه الجوفية في أخطر موسم جفاف خلال الثلاثين سنة الأخيرة.

وتسامحت السلطات مع القنوات التلفزيونية الأجنبية التي تضرب ثوابت البلد وقيمه ومؤسساته بينما صمت آذانها عن طلبات إطلاق قنوات ومحطات إذاعية وطنية لتشكيل الجدار المنيع ضد حروب الصورة التي هي الحاضر والمستقبل.

فهل سينتهي زمن التساهل مع الدخلاء ويحل محله زمن  إسناد الأمور إلى أهلها، أم علينا أن نيأس وننتظر الساعة؟

رشيد نيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *