عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 30

من أجل الحرْف.. كلّ شيء يَهون!

بحلول مارس، كانت أجندتُنا اليومية المفتوحة تشهد بعض التّعديلات حتى تواكب فترة الاستعداد للامتحانات؛ التي يبدأ شبحُها في اعلان نفسه بقوة يوماً بعد يوم. خلال هذه الفترة من الموسم الجامعيّ يبدأ الطلبة في إعداد العُدّة لمُواجهة هذا “الشّر الذي لا بدّ منه”، الذي يزحف نحوهم، مُخيفاً بعضَهم، دافعاً إياهم إلى إعادة حساباتهم وترتيب الأولويّات؛ فيما البعض لا ينتظرون إلا حلول فترته من أجل الانتهاء، أخيراً، من وجع الرّأس ذاك.

في تلك الأيام كنتُ أقطع علاقاتي بشخوص الرّوايات والقصص، مُكرَهاً في كلّ الأحوال. أكبّ، بحماسة، على نَسْخ ما تبَقّى لي من المُحاضَرات، ضارباً عصفوريْن بحجر: وأنا أنقل تلك المُحاضَرات إلى دفاتري، أتوقّف عند فقراتها وأركّز على الخطوط العريضة لكلّ درس، وأنا أطرح إشكالاته، في مُحاوَلة لإيجاد مَنفَذ لـ”قراءة” ثانية مُمكنة، قد تنفعني، في ما بعدُ، في التّعامل مع أسئلة الامتحانات.

وإذا كانت رحابُ الجامعة تحتضن فترة الاستعداد، خُصوصاً في بداياتها الأولى؛ فإننا نشرَع، مع تباعُد حصص الدّروس المتبقية من برنامج الموسم، في ارتياد أماكنَ أخرى أرحبَ من أجل الاستعداد للغُول المُقبِل نحونا بسرعة تزداد يوماً بعد يوم. وتكون الحدائقُ العمومية ملاذَنا لأجل تحقيق تلك الغاية؛ فعندما نحضر آخرَ مُحاضَرة ولا يعود هناك ما يُرغمنا على الذهاب إلى الكلية، نقصد الفضاءات الخضراءَ، التي تتحول إلى ما يشبه جامعات مفتوحة تعُجّ بالطلبة من جميع التخصّصات والشّعَب.

ولن يستويّ الحديث عن الاستعداد للامتحانات الجامعية، أبداً، دون التوقف عند تلك الأوقات الطويلة التي كنّا نقضي ونحن نلوك المُحاضَرات ونعمل ما في وسعنا حتى نركن سطورَها في مكانٍ من الذاكرة.. ساعاتٌ مُمتدّة على طول النهار والليل كنّا نُمْضيها وأعيُننا وعقولنا مُركّزة على السّطورر وعلى “مضغ” حُروفها المتتالية بالآلاف، بالملايين.
وطريقة الطلبة في حفظ دروسهم موضوعٌ آخرُ يحتاج عديدَ صفحاتٍ. لم تكن المراجَعة تحلو لبعض الطلبة إلا وهم يَذرَعون المكان ذهاباً وجيئةً، دون توقف أو ملل. آخرون إذا لم يستوُوا جيداً ويفترشوا الأرضَ لن يدخل حرْفٌ واحد أدمغتَهم. وهناك، أيضاً، من يُشكلون ثنائيا أو ثلاثياً وهم يناقشون كلّ صغيرة وكبيرة في المُحاضَرات.

شخصياً، يستحيل أن تدخل فقرةٌ واحدة من تلك “المحفوظات” إلى عقلي وأنا جالس! مساحاتٌ لا تعدّ أقطعها في الغدوّ والرّواح؛ في الرّواح والغُدوّ.. ولأنّ الظروف لم تكن تُمهلنا لاختيار الأوقات التي نُباشر فيها الاستعداد، فقد كانت الطبيعة تُجرّب فينا جميعَ تقلباتها المناخية. وبما أنّ الفترة تُصادف أيامَ الرّبيع والصّيف القائظة، فقد كانت أجسادناالمسكينة تُجلَد مئات الدقائق تحت الأشعّة المُلتهبة على امتداد أيام من “التهيؤ للامتحان”..

وبين مُطارَدة إشكالات الأدب المأثورةَ ونظرياته ومُلاحَقة بُنود القوانين ومساطرها، الشّرعيّ منها والوضعيّ؛ بين مُعادَلات وتفرّعات مُعادَلاتِ الرّياضيات والفيزياء وبين دروس البيولوجيا وشقيقتها الجيولوجيا، تتقاطع صفوفُ جيوش من الطلبة وتتوازى، جيئةً وذهاباً. وبين فقرة وفقرة من المقروء، فاصلٌ واحد، شعارٌ وحيد: كلّ شيء يهُون من أجل الحرْف!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *