عبد الرزاق بوتمُزّار

ح. 29

ديمَا بارْصا، هالا مدريدْ..

في مساءات أيام السّبت أو الأحد لم يكن أيّ شيء آخر يَشغلنا عن متابعة مُبارَيات فريقينا المُفضّلَين في بطولة الجارة الشّمالية للمملكة، إسبانيا. احتضنتْ “مقهى الأروقة”، كما غيرِها، لحظاتِ فرجة مُمتعة، خُصوصاً حين يلتقي الغريمان.. تعرفون اسمَيْهما، على الأقلّ!؟ هما لا يزالان يضمنان مُتنفّساً من الفرجة الكروية الرّاقية ولا يزالان يُنسيّان جمهورَ المغاربة خيباتِ بطولتهم المُتعثّرة؛ اسمهما البارْصا والرّيال..

كنّا قد ابتُلينا بمُتابعة مُبارَيات اللـّيغا في طور الثانوي، وربّما منذ سنوات الإعدادي الأخيرة؛ نقصد المقهى، بعد أن نتدبّر، كلّ بطريقته، مبلغ المشروب ونجلس في إحدى زوايا المكان وقد شحذ كلّ “فريق” منا أسلحته لمهاجمة غريمه على إيقاعات فرجة كروية حقيقية وجدنا فيها مهرَباً من العبث الذي يعدو في ملاعبنا باسم الكرة، باسم الرّياضة.. وحين صارت لنا منحة ولم نعد نلجأ كثيراً إلى آبائنا وأفراد عائلاتنا، استحكمت البْلية وتضاعفت جلساتها في الأروقة وفي غيرها من مقاهي المدينة؛ والويلُ لـ”الفريق” الذي يخسر النادي الذي يُشجّعه مباراةً، خُصوصاً إذا كانت إحدى مُبارَيات الكلاسيكو..

دفعتنا الحُرّية، التي استطبْنا ملذاتِها بعد ولوجنا الجامعة، إلى التجرّؤ على طرْق أبواب عوالمَ ظلت، قبل ذلك، مُستعصية ومُستغلِقة علينا. كانت غرفة جواد العلوية، شبه المنعزلة عن مسكن ذويه، منطلقنا للتخطيط لكلّ مشاريعنا ومُغامَراتنا، التي لا تنتهي. في تلك الغرفة، وعلى إيقاع موسيقى شعبية صاخبة أو إحدى مختاراتنا الغربية الهادئة أو الضّاجة، كنّا نتعلم أبجديات الإيقاع بأنفسنا في تجاربَ ورهاناتٍ غيرِ محسوبة العواقب. وحول طاولة هوايتنا المُشترَكة للعب الورق (الرّامي) كانت عبقرية أحدنا تتفتق كلّ يوم عن أفكار غريبة جديدة ما نفتأ نضع الخطط الأولية لتطبيقها على أرض الواقع؛ ليتواصل مسلسل شغبنا الجميل، الذي كنّا قد بدأنا فصوله الأولى في أقسام الثانوي وما قبلها.

في ما يُشبه الحنينَ إلى الأيام الخوالي، كنّا نحرص، عند حلول السّادسة من مساء كلّ يوم، على تموقعنا المُعتاد أمام ثانوية يوسف بن تاشفين في انتظار مرور موكب الفتيات اللواتي تطرُدهنّ بواباتُ الثانويات والإعداديات القريبة لنمارس هوايتنا الأخرى: مُشاكَسة الحمائم وإمطارَ أسماعِهنّ بما تجود به القرائح من جميلِ الكلام ومعسولِه على أمل الظفر بابتسامة من هذه أو كلمة أو تلك؛ ولمَ لا موعد مأمول..

بعد ابتعاد طيفِ آخرِ واحدةٍ منهنّ، نركب دراجاتنا الهوائية وننطلق في جولة مسائية عبر شوارع المدينة الحمراء. وأيّاً كان مسارُ جولتنا، وأيّاً كانت المسافة التي نقطعها كنا، دوماً، ننتهي إلى منزل جواد، بعد أن يتخلص كلّ واحد منا من دراجته، تجنّباً لمزيدٍ من الحرج مع والدة صديقنا، التي، لِسِعةِ قلبها ورحابةِ صدرها، لم نكن نعرف ما نقول في حضورها؛ فقط ننحني على يدهاونُقبّلها، الواحد تلو الآخر، قبل أن نصعد الأدراجَ، في خفة، هُروباً من طيبوبة قلب هذه السّيدة العظيمة وصفاء روحها. كان كلّ شغبنا المُنفلت يذوب ويتلاشى في حضرتها الجليلة.

داخل الغرفة الدّافئة، كنّا نتسابق على الارتماء في أماكننا المعتادة لنشرع في اللعب على إيقاع أصوات الموسيقى، الصّاخبة أو الهادئة حسب رغبة الأغلبية، ونحن نتلذّذ برشف كؤوس الشّاي وقَضْم قِطع الحلوى التي كانت للا لْكبيرة تبرَع في إعدادها ولا تتوانى في استقبالنا بها عشيةَ كلّ يوم من ذلك الزّمان البعيد والجميل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *