عبد الرزاق بوتمُزّار

اليـوم الـ19

في المقهى، وبالنظر إلى غياب ماتشات الكرة، لا مناصَ من جولات من “الرّوندة” أو “الكاپية”، حسب الرّغبة أو عـدد اللاعبين المتاحين، إذ يمكن الأخيرة أن تُلعَب بوجود ثلاثـة أو حتى اثنين (فْالرّاسْ) بينما لا تصحّ “الرّونـْدة” إلا بوُجود “قبالـَة”..

لاحظتُ أنّ كثيرا من الزّبائن استبدَلُوا “الرّامي” بأوراق “البْلديّة”، ذاتِ الأربعين ورقاً فقط. هـذا شهرُ الأصالة في كـلّ شيء وفي كـُلّ مكان. المغاربة نوعٌ استـثنائيّ من البشر، حقـّاً.. حتى فـي أماكنَ مثل المقاهي لا بأسَ من البحث عما يُعطي الجلسات بعض التّميز عمّا هي عليه في الأيام العادية.. لا شكّ في أنّ “الرّامي” صُنِع في بلاد العجم، بينما الكارْطة، مُولاتْ السّويطة، مارْكـة مغربية وتحيل أكثر على “أصالـة” هذا الشّهر.

وحين تنخرط في طـرْحْ “رُوندة” فاعلـمْ أنّ الوقت سينصرم بسرعـة.. لم يكن الأمر يطرح لي مشكلة في السابق. كنتُ أنتهي نائما حتى ساعات متأخرة من اليوم الموالي.. الآن، تغيرت المُعطيات: علي الاستيقاظ مبكرا للحاق بأول قطار يُغادر محطـّة المدينة فـي اتجاه مدن المركز. وكلما تأخرتُ خارج البيت ضاق حيز الزّمن الذي يفصلني عـن موعـد المُغادَرة، لذا قرّرتُ: ليلـة بيضاء..

مُنتصف الليل. غادرتُ المقهى، لا غالبَ ولا مغلـوب، خسرتُ في “الروندة” وربحتُ في “الكاپّية”..

-غيرْ باش تبقى عْلى خـاطْرك..
قال الحبيب، وهو يتطلع إلى كمال وطارق، يستحثهما على مؤازَرته في ما ذهب إليه..

-لا، أخويا، هو انتقم منكْ فالكاپّية..
أجابه طارق، وهو يسحب الطاولة جانباً ليقوم مغادرا المكان، أقوم. سرْنا أمتارا قبل أن أودّعه، وقـد رأيت تاكسي قادما في اتّجاهنا.. لم أعدْ أقطن في المنطقـة. وحتّى أرى أصدقائي أو أجـالسهم صار لزاما علي قطع مسافة طويلة، ذهابا وإيابا..

الواحدة صباحا. عُشّ صغير. ثلاثة عصافير نائمة. عصفوران صاحيان قرّرا عدم الخلود إلى النوم حتى مطلع الفجر..

الثالثة وخـمس وخمسون دقيقة. صوتٌ أنثويّ يُذكّرك من الهاتف بأنْ حان وقتُ المغادَرة.. تجمع أشياءك الصّغيرة في محفظتك. تخنق أولَ تنهيدة في يـومك، وأنت تجول بنظرك على الأجساد الصّغيرة المُتمدّدة في فناء البيت. كلماتٌ قليلة. نظراتٌ وحركات. مفتاحٌ يدور في مزلاج الباب. تستسلم لقدَرك. تبتعد في اتجاه الشارع الرّئيسي، بحثـا عـن تـاكسي..

الخامسة صباحاً. تتحرّك أول دابة حديدية، والاتجاهُ شَمال. كنتُ قد خططتُ لقضاءِ الساعات الثلاث نائماً. اخترتُ مقطورة مُناسبة. أغلقتُ البابَ. توسّدت جهازي ومدَدتُ ساقيّ فوق الكُرسييْن. وحين قلتُ لي قد حضر النـّوم، حضـر مسافرٌ مُزعج.. دفع الباب ثمّ أغلقه بعنف. ودون مُقدّمات، راح يفتش في حقائبه الثلاث. كنتُ أخفي عينَي من الضّوء بطرف قبّعتي. كنتُ أرى جزءه السّفلي فقط. يأخذ من هذه الحقيبة ويضع في تلك. يُخرج أحدَ أغراضه من تلك ويضع في هذه. (ماذا يأخذ هؤلاءِ في كـُلّ هذه الحقائب الثقيلة؟) سألتُني، وقد أرغمني بأصواتِ بلاستيكاته وأزيزِ حقائبه وهي تُفتح وتُغلق، على أن أتابع حركاته المُزعجة. حين شعر بأنـّه، ربّما، أحدَث من الجلبة أكثرَ مما يُحتمل، التفتَ إليّ وأنا أعتدلُ رقدتي واعتذر:

-اسمْح ليّ إلى ما خْلـّيتكشّ تْنعسْ، واحْد الميكة ما نعرفْ فينْ تلفاتْ ليّ..

-لا، الدّنيا هانية، خُد راحْتك.

انتعل حذاء رياضيا، أخرجـه من حقيبة حمراء ضخمة. تمدّد فوق المقاعد الثلاثـة المقابلة، بَعْد أن أطفأ الأضواء..

السّابعـة وبعض دقائق. محطة سطـّات. قمتُ جـالساً وقـد وضعتُ الحقيبة جـانبا. صرتُ أعرف أنْ بَعْد هذه المحطة لن أهْنأ بنوم.. قومٌ كثيرٌ يغادرون المدينة كلّ صباح في اتجاه عاصمة الاقتصاد. ثمّ دلف شابّ وجلس فوق كرسيّ قربي. فهم المسافرُ الذي رافقني من مُرّاكش لماذا قمتُ.. سحب رجليه من على الكرسيّين واكتفى بالثالث، مجلسا..

الثامنة وبعض دقائق. الدّار البيضاء -المسافـرين. جسدٌ منهكٌ يغادر دابّة حديدية..
***
الرابعة مساء ودقائق. أخيرا، لاحتْ في أفق اليوم المُتعب فرصتُه، النوم..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *