عبد الرزاق بوتمزار

 

اليـوم العـ10ـاشر

الثـّانية وخمسٌ وثلاثون دقيقة. تتوقـّف الدابّة الحديدية في “كازا ڤوايّاجُورْ”. ما هذا؟ لم أصدّقْ ما يجري. سألتُ أحدَهم:
-هل هذا، فعلاً، قطار مرّاكش؟
يُجيبني آخَر:
-نعم.. هل أنتَ ذاهب إلى مرّاكش؟ إنّها المحطّة الأخيرة. لـن تتُوه أبداً.. وعندما…

مِن بين “حسناتِ” المغاربة أنهم مستعدّون تلقائيا لتقديمٍ أنواعٍ من المساعَدة حتى لـو لم تـسألهم إياها.. نظرتُ إلى الشّاب نظرة رمضانية وأجبتُ، وأنا أبتعد عن الكراسي في اتجاه “مؤخّرة” القطـار، حيث مجالس الطبقة الثانية من الشعب أو الثالثة، لستُ أدري:

-أعرف أنّ مُرّاكش هي آخر محطّة.. لكنْ أعرف، أيضاً، أنّ موعدَ القطار في الثالثة إلا عشر دقائق، وليس الثـّانية والنصف.. سألتُ فقط كي أتأكّد..

كان الأمرُ، في الحقيقة، ضرباً من الخيال، أن يأتيّ قطارٌ في المملكة -غيرِ المُستعجلة- قبل الوقت! هذه حكاية تستحقّ التّأريخ، حقّاً.. يبدو أنهم أجروا تعديلات في المواعد بمناسبة رمضان. لكنّ هذا الفضوليّ ظنّ أنّني أجهل كيف أصل إلى مُرّاكش..

في المقطورة الأولى كان هناك مقعد شاغـر، لحسن الحظّ، وما أندر حسن الحظ في دوابّ الحديد فوق سكك المملكة.. أخرجتُ الأعمال الكـاملة (الشّـِعـر) لعبد الله راجع وشرعتُ في القراءة. كنتُ عزمتُ على أن أُنهي قـراءة هـذه الإصدار في هذه الرّحلة بالذات. كانتْ هناك ثلاث شابّاتٍ في الكراسي المقابلة لمجلسي. إحداهنّ ممدّدة على كرسيّين وإحداهُنّ فتاة صغيرة “باردة” النّظرات، بينما كانت الثالثة تضع على عينيها نظّارات سوداء وتقذف الجميع بنظراتٍ لا تقـلّ سوداوية.. على يميني شابّ في العشرين، منخرط في لعبة إلكترونية في جهازه الصّغير. وعلى يساري شخصٌ غارق في النوم، مُستغلا كُرسيّين. صرنا ستّة، قبل أن يلتحق بنا مسافران في محطّة “الوازيس”.

شرعت في القراءة. وكما في كـُلّ مـرّة، يكون هناك، دائما، شخصٌ لا تُعجبه هواية القراءة.. كانتْ هذه المرّة صاحبةَ النظّارات السّوداء، ذاتُ النّظرات السّوداء.. لبثتْ تُحدّق في بكيفية تُوحِي بأنّني مَدينٌ لها بمبلغٍ لا يُستهان به، أو بأنّ بيننا إرثاً لا يحتمل تقسيمُه التّأخير إلى حين الانتهاء من قراءة كتاب!.

كنتُ، أيضا، أضع نظّارات شمسية سوداء؛ وحين أنتهي من إحدى صفحاتِ الدّيوان كنتُ، وأنا أنتقل إلى الصّفحة الموالية، ألقي نظرة تلقائية على وجوه الجالسين في المقطورة، خصوصا الشّـابّات الثلاث الجالسات قبالتي. كانت اثنتان غير مُهتمّتين، أمّا صاحبة السّواد فمُهتمّة بطريقة مُخيفة..
في الوازيس التحق بالمقطورة مُسافرٌ ومسافرة. استوتْ الشّابة في جلستها قبالتي وقامِ ذلك الشّاب على يساري مِن “نومه” وهو يحدجُ الملتحقَ الجديد بالمقطورة بنظرات مُتـّقِدة.. مِن “مُميّزاتِ” البعض أنّهم يفضّلون أن “ينامُوا” في القطار ولو كان هُناك مَن هو واقفٌ في الرّواق القريب، لذلك أفضّل صُحبة كتاب.. عُدتُ إلى حيث توقّفت:

“المعلـّقة الحادية عشـرة”
لأنـّكَ آتٍ يُطاولـُني النـّخل
كـُلّ الطـّوابق فـي جسمي حُجـِزتْ للقصـيـد
وكـُلّ الـزّوايا شوارعٌ تـُضـاء..
لأنـّكَ آتٍ يُسافِـر في نبضي ألـق
ويُطلّ النـّشيد
فأسرِج قـافيتي نخبَ هذا المسـاء
أقـول لها اكتـشفي، حين يأتي عُمْـرٌ،
مساحة قلـبي، ادخلي جنـّتي
تجِدي نبضة أوغلتْ فـي عـُروق الشّجـر..
يُطلّ عـلى الأرض من جسـدي فـرَح
والطـّيور على كتفي استراحتْ
أنا مرفأ للحنين.. مسائي يُذكـّر الغائبين
وصُبحي عـلى بابهم يرتمي
تطير النـّوارسُ من عتمة القلب..
تـُلقي التـّحية حيناً عـلى مَـن أحِبّ
وحيناً تُخلـّف بعض الرّسائل مُشرَعة فـي فمِي..
يدي للكتـابة، قلبي لنبضته المُشتهاة.
المدائنُ حيـن أحدّثها عـن همـومي تسمّي الكتابة إثماً
تـُسمّي ارتجاج الـدّواخل فـاتحة للجُنون..

(…….)

في برشيد، نزلتْ ذاتُ النظّارات السّـوداء والنّظرات؛ وفي سطّات غادرت تلك الشّابة التي كانتْ ممدَّدة في البداية. أواصل القراءة:

حين أحدّثها عن همومي تسمّي الكتابة إثماً
تـُسمّي ارتجاجَ الـدّواخل فاتحة للجُنون..
ولي أن أسمّي شيئا بغيرِ اسمِه
قد تمرّ الطـّيور على باب قلبي
فأدعـو الطـّيور سحابا..
ويسرقني الدّفء حين يغطّي الصّقيع جبيني..
وإذ أبعث العينَ خلف السّفائن تنأى
وتـُمسِك بالرّاجلين يـدِي
كـأنّي أؤسّس للحُلم قـامته كي أكونْ
حنينَ المرافئ، فـاتحةً للجنون..
(…….)
(…….)

استبدّ بي الإرهاق على مشارف بنگرير. كنتُ عند الصّفحة الـ400. لا بأسَ، قلتُ لي. لـمْ يعد يفصلني عن إنهاء هذا الكتـاب صفحاتٌ كثيرة. ما يقرُب المائة صفحة، سأقرؤها في أقـرب فـُرصة.

فـي السادسة وعشر دقائق، توقـّفتِ الدّابة فـي المحطـّة الأخيرة، مـُرّاكش. لن أتـُوه، كما قال ذلك العبقريّ الذي لما سألتُه هُناك في “ڤوايّاجُور”..

توقف تاكسي قربي. بعد 15 دقيقة كنـتُ في المنزل. استـقبلني الصّغيران ونظرة صامتة عند باب الكوزينة، ورائحة حريرة حامْضة تُطبخ، كما لهفتي إلى عشّي الصّغير، على نار هادئة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *