يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة الـ22

كان عباس لعورْ أكبر متضرّر من إغلاق المقهى. المكان ، أو بالأحرى مدخله،  يوفّر له فضاء لعرض خدماته الجليلة الغزيرة عْلى زبائن عرف جيدا كيف يكسبهم ويحافظ عليهم على امتداد سنين. الآن “داختْ ليه الحلّوفة” ولم يعد ما يفعل. صحيح أنه ما زال يفترش المكان ويعرض عيّنات من أحذيته ونعالجه وهو منهمك في تصليح أحدها، لكنْ أين هم الزبائن؟ ثم من سيفكّر، من أهل الحومة الدراوْش، في تلميع حذائه أو إصلاحه في هذه الظروف المزرية!؟..

ثم إنّ ما كان يُبهج صاحبي ويدخل دراهم محترَمة إلى جيبه في مقهى كاليفورنيا لم يكن عمله في صيانة أحذية سكان الحومة والعابرين، بيع السجائر بالتقسيط وأيضا عمولته في التوسط بين المكترين والراهنين وبين أصحاب المحلات المعروضة في الحومة للكراء أو الرّهن.

فمن بيع السجائر فقط يضمن مدخولا جيدا يقيه نكسات خدماته الأخرى التي قد يصيبها البوار أياما أو حت أسابيع أحيانا:

-التدخين فقط لا يتوقف، في كل وقت هناك مدخّنون، منذ ساعات الصبح الأولى حتى ما بعد الثانية عشرة ليلا في الأيام العادية، كان عبيبيسْ يتجنّد لـ”مهنته” الحقيقية كما يصفها، وهي بيع السجائر بالتقسيط:

-يجب أن تعرف أنّي أكسب منها ما يغطّي حتى مدخولي من وساطاتي العقارية، صحيح أنني أربح منها أحيانا مبالغ مهمّة، خصوصا حين أنجح في إنهاء صفقة بيع أو شراء، لكنّ ذلك لا يحدث دائما.. قْليل ومداوم وَلا كثير ومْقطوع..  شي مرّات را تندخّل حتى لربعة لافْ فنهارْ واحد إلى كانت الدعوة مْزوهرة..

قال لي، يوما، في إحدى إشراقاته وقد احمرّت عيناه واحولّتا بفعل تدخين كيفْ مدرّحـ معتبر. لكنّ الوقت الآن لم تعد “مْزوهرة”، فقد تسبّب الفيروس الغامض في إغلاق مقهى كاليفورنيا واختفاء زبائنه من المقيمين والعابرين.

كنت أيضا أمضي أوقاتا مهمّة في مقهى كاليفورنيا، خصوصا حين تكون إحدى مباريات التشامبيونز ليغ أو الليغا منقولة في شاشتها المسطّحة الكبيرة التي عوّضت ذلك الجهاز القدم والثقيل.  وبذكر مباريات الكرة، يحضرني، تلقائيا، اسم شخص عجيب وغريب لم أر مثله بين مشجّعي الريال ولا بين مريدي غريمه البرشلوني “الانفصالي”، كما كان يصفه وهو يكيل له كل الشتائم والنعوت والأوصاف القدحية والذميمة.

لم يكن الجّيلالي الضّالة صديقَ أحد من عشاق الكرة في المقهى، حتى “الرياليون” أمثاله كانوا أحيانا يشربون من كأس مرّ كلامه الذي لا ينقطع لحظة واحدة من فمه، الذي تتراكم عْلى جنبيه أمواج من الزّبد وهو يرغي في إحدى صولاته وجولاته، خصوصا حين يفوز فريقه المفضل.

ليس للجّيلالي الضالة دراسة ولا هواية ولا همّ ولا اهتمام ولا صاحب ولا صاحبة ولا جيران ولا والدان ولا إخوة ولا شغل ولا مَشغلة إلا.. ريال مدريد وكريستيالو لوراندو (هكذا كان ينطق اسمه). لم يكن من الحومة تحديدا، لكنه يسكن غير بعيد، في الجهة الأخرى للشارع الرئيسي الذي يفصل المحاميقْ القديم عن بقية الحُومات التي اتخذت في الغالب اسم المحاميق مضافا إليه رقم ما، فتجد المحاميقّ 2 والمحاميق 3 و4 و5 إلى ما شاء الله من المناطق التي تجاوز عددها الأرقام الأحادية. 

من هناك كان الجّيلالي يأتي مبكرا جدا، متأبّطا جريدة اكتشف الظرَفاء أنها لا تتبدّل أبدا، إد إن حاملها لا يعرف القراءة أصلا.. ليقتعد الكرسي ذاته ويشرع في “التحليل”، ثم “التعليق” و”الاستنتاج” وغير ذلك أكثر مما يعلّق المختصّون في القناة الناقلة للمباراة. وطبعا، يكون في صالح زبائن المقهى ومالكه ونادلَيه أيضا، حتى لو كان بينهم من يعشقون الريال مثله ويتمنَون فوزه،  أن يخسر فريقهم، خصوصا إن كانت مباراة تجمعه بغريمه الكاطالوني. فحين يفوز “الملكي” لن يستطيع أحد منعه من التلفّظ بكلامه غير المحتمَل في حق عشاق الفريق الغريم وإتيان حركات مخلّة، بذراعه أو بإصبعه الوسطى.

يتحدث في كلّ ما يمكن أن تتخيّل أن له علاقة بفريق مدريد مدريد ونجمه المفضل، الذي “خان” مع الأسف، كما يقول، بعدما انتقل إلى البطولة الإيطالية. وكان حين يسجّل فريقه هدفا (والمصيبة بالنسبة إلى المتفرجين أنّ “لوراندو” هو من يسجّل في الغالب) يقفز فجأة في الهواء وهو يصرخ عاليا، كأنه في الملعب، قبل أن يتوقف ويشرع في خبط مرفق يمناه بقوة بكفّ يسراه وهو يقول “هاكو للـْ(…) عْلى (…)… عزاوي أخا لوراندو، تقبْ لي (دّ…)”. والأدهى والأمَرّ أنه كان يعاني من مرض نفسيّ، أي أنه مرفوع عنه القلم.. “خلّيتيهْ وْحلة كلّمتيه وحلتينْ”، يقول صالحي حلّ من خلّف ماكينة العصر، متأسّفا ومتافّفا.

مؤخرا، وحتى قبل إعلان الحظر في مرحلته الأولى قبل أزيد من عام، لم يعد الضّالة يُرى كثيرا في مقهى كاليفورنيا. وقد ربط بعض الظرفاء “رحيله” عن المقهى بـ”رحيل” نجم فريقه المفضل إلى جيفونتيس الإيطالي. والحقيقة أنه بهذه الكيفية، كان لرحيل هذا اللاعب بالضبط عن ريال مدريد فوائد للمقهى، بمالكه وزبائنه ونادليه، أكثر مما له من فوائد عْلى مدريد أو جيفونتيس.. فقد تخلّصوا أخيرا من متفرَج ليس كما كلّ المتفرّجين. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *