أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

 

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

عندما تصل الى مخيمات الصحراويين في تلك الفترة، تجد أنك في سجن كبير لا جدران له.. ثلاثة تجمعات سكانية كبيرة معزولة بعضها عن بعض. مخيم العيون يبعد عن مدينة تيندوف بـ8 كيلومترات شرقا، ومخيم السمارة يبعد عن مخيم العيون بـ35 كليمتر جنوبا، ومخيم الداخلة يبعد عن مخيم السمارة بـ140 كلم جنوبا. و”العاصمة الإدارية” المسماة الرابوني أو حاسي عبد الله، حسب التسمية الإدارية الجزائرية، تبعد عن مخيم السمارة بـ28 كلم غربا.

الاتصال الوحيد الموجود بين المخيمات والرابوني هو جهاز اتصال لاسلكي واحد في كل مخيم بإشراف الوالي، مخصص للبرقيات الرسمية. والتنقل بين هذه التجمعات مشروط برخصة محددة المدة والاتجاه.

لا توجد في المخيمات متاجر، و النقود والسيارات حكر على رجال التنظيم، أما “المواطن”، كما يطلق على الساكنة، فيوزع عليهم نصيب معلوم من المواد الغذائية مرة في الشهر، حسب تعداد الأسرة، و”لبسة” مرة أو مرتين في العام.

ومن النادر أن يجتمع أفراد الأسرة الواحدة مرة في العام. فالرجل في جبهات القتال والأبناء في المدارس الداخلية أو في الخارج، وقد لا تتصادف عطلة الابن مع رخصة الوالد. وإن قدّر للأسرة أن تجتمع مرة في السنة، كأن تتصادف رخصة “المقاتلين” منها مع عطلة المتمدرسين، فلا يتعدى اجتماعهم  15 يوما في السنة، وهي مدة رخصة “المقاتل”، التي إن زاد عليها يوما يُحرم من رخصته اللاحقة، حسب قوانين “الجيش”..

تمر السنة تلو الأخرى وأفراد الأسرة منشغلون يعدون الأيام، متى يحين وقت عودتهم إلى العشّ.. وحين يجتمعون تعود الرخصة محددة الزمان لتفرقتهم من جديد.

لا يحتاج “التنظيم” أن يضع جدرانا أو أسوارا حول المخيمات. فلا أحد سيغادر دون أبيه أو أمه أو إبنه. ولن  يشعر الناس بأنهم في سجن كبير، إنما هم ينتظرون أن يجتمعوا..

هكذا وجدناهم، وقد ألفوا حياة المخيم رغم قساوتها ولا يشكون من شيء.. يدعون بالخير للتنظيم، الذي ينعم عليهم بالمأكل والمشرب والملبس والدواء ريثما يجتمعون.. أدخلنا، نحن أيضا، دائرة الانتظار يوم بعثنا إلى مدرسة داخلية، ليصير عقلنا نحن الصغار منشغل بالعودة إلى الخيمة وتنشغل والدتنا بانتظارنا.

في الثلث الأخير من 1980، تم تحويلنا إلى مدرسة “12 أكتوبر لأشبال الثورة”، وهي مدرسة أنشئت بالأساس للتدريب العسكري، لكنّ التنظيم قرر مؤخرا أن يجعلها مدرسة مزدوجة تجمع بين التدريب العسكري والتحصيل العلمي، وفتح فيها فصولا دراسية.

تقع المدرسة ما بين ولاية السمارة وولاية الداخلة، وهي مدرسة عسكرية بامتياز، فيها طاقم تدريس ومجموعة من المدربين العسكريين. عندما تدخل تذهب إلى الحلاق وتستلم زيك العسكري وتوضع تحت إشراف “المدرب العسكري”، الذي حل محل “المربي” في مدرستنا الأولى. أما المعلم فلا يربطك به غير حجرات الدراسة، فهو، مثلك، خاضع للنظام العسكري.

كان في المدرسة الجديدة قسم واحد من السنة الاولى إعدادي و كنت في القسم الوحيد الذي يتهيأ تلك السنة للشهادة الابتدائية. وهناك عدة أقسام من المستوى الرابع ابتدائي.. أغلبية الأطفال في المدرسة يكبرونني سنا، فجلهم بدؤوا الدراسة متأخرين. وكنت الأصغر في قسمي، وقد دخلت سنتي الثالثة عشرة.

في مدرستنا الجديد كانت لنا، إضافة إلى الدروس النظامية، حصص عن السلاح والقتال، فيها النظري والتطبيقي، كتعلم فكّ و تركيب الاسلحة الفردية واستعمالها في حصص من الرماية. وأذكر أنه في حصة الرماية الأولى بسلاح اسمه “سيمينوف”، عندما أطلقت الطلقة الأولى ارتدّ علي السلاح وتورمت وجنتي، وضحك مني المدرب.

الأصعب في مدرسة 12 أكتوبر للاشبال هو ليلة ما يسمى “الإغارة”.. وهي حصة تدريب واختبار للجاهزية القتالية تتم في ساعة متأخرة من الليل، يحضرها التلاميذ كما يحضرها الجنود، الذين يتدربون معنا في المدرسة نفسها.. وأذكر أنه في ليلة من الليالي الأولى في المدرسة، كنت مستغرقا في النوم ككل الأطفال، وفجأة استيقظنا على أصوات الرّصاص الكثيف داخل عنابرنا والصافرات والصراخ بأن نخرج إلى ساحة التجمع. وهرعت، مع بقية الاطفال، إلى الساحة فزعين.. وفي الساحة تجمّع كل قسم على حدة لتفقد الحضور والهيئة، ومن تاخر عن التجمع بدقائق معدودات أو حضر بهيئة عسكرية ناقصة، من غطاء الرأسإلى الحذاء، تتم عقوبتهم باستكمال بقية الليل واقفين في وضع الاستعداد في الساحة أو بالمسير الليلي.

وبمرور الوقت ألفنا، رغم صغر سننا، الإغارة، ولم يعد يرعبنا الاستيقاظ على أصوات الرصاص والانفجارات والصراخ والصافرات. وصرنا نسخر من زملائنا الذين يؤخذون أسرى ليلة الإغارة ونعدّهم فاشلين.. وتعلمنا استخدام السلاح، و كنا رغم ذلك تلامذة نجباء، فقد كان لدينا طاقم تدريس جيد، جله من المتطوعين الموريتانيين الذين التحقوا بالجبهة في السنتين السابقتين، بعد انتهاء الحرب مع موريتانيا.

وعدنا في العطلة، ولدينا ما نفاخر به أطفال مخيمنا، فإلى جانب تفوقنا عليهم في الدراسة، أصبحنا نتقن فكّ وتركيب الأسلحة و تعلمنا الرماية بالذخيرة الحية، أما قصص مغامرات الإغارة فلا يحظى بها إلا صفوة “الرفاق”..

وللحكاية بقية…     

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *