أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

 

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

في الصباح أخذني الضابط إلى ربوة قريبة من المعتقل، في انتظار اتصال مكتب مفوضية غوث اللاجئين من جنيف..

-آلو.. السيد مصطفى سلمة ولد سيدي مولود؟

-نعم.

-معك…(نسيت الاسم) من مكتب الـ”HCR” في جنيف، أريد أن أعلمك بأننا تسلمنا قضيتك ونريد أن نسألك أين تريد أن تلجأ.. ولكن قبل ذلك، طمئنّا عليك، هل صحتك بخير؟.. وأربد أن أخبرك بأني أتحدّث معك من خط آمن، يمكنك أن تتحدث بحرية.

-أريد أن أخبرك بأني أتحدث من هاتف ضابط الأمن، ولكني سأتكلم بحرية.. وأشكركم على جهدكم.. لكنْ لماذا أحتاج لجوء؟ فأنا في أرضي، ومنزل والدتي، لولا بعض المرتفعات، لأمكنني رؤيته من حيث أقف الآن.

-نريد أن نخبرك بأننا لسنا شرطة، نحن لا نجبرك على شيء.. ونريدك أن تعطينا ثلاثة خيارات للجوء، تحسّبا. وبالمناسبة، فقد توصلنا برسالة من وزارة الخارجية الجزائرية يرفضون أن تدخل الجزائر.

-أنا لست جزائريا. أنا موظف ومواطن في “الجمهورية الصحراوية”، وعملي وأسرتي وبيتي هناك فوق التراب الجزائري. ولست ذاهبا إلى الجزائر، أنا ذاهب إلى دولتي. وبالنسبة إلى الخيارات التي طلبت: إسبانيا، موريتانيا.. فالمغرب مكان قريب من منطقة النزاع ويحترم رأيي السياسي.

سنعاود الاتصال بك كلما كان هناك جديد. وسنعمل على أن تحل الأمور في القريب..

وداعا…

عدت إلى زنزانتي، وقلت للضابط إني أريد رؤية عائلتي قبل أن أقدم على أية خطوة. قال إن القيادة أخبروه بأن موضوعي لم يعد يعنيهم، وإذا أردت رؤية عائلتي علي أن أطلب ذلك من مكتب غوث اللاجئين عندما يعاودون الاتصال بي..

غضبت وقلت له إني متمسك بالمسار القضائي وإني باق في السجن إلى حين الحكم علي أو تبرئتي. وهؤلاء الذين اتصلوا بي لا أدري هل هم من غوث اللاجئين أم مسرحية من إنتاجكم.

بفكر شارد تتقاذفه أمواج الغضب والألم والصدمة والشوق إلى الأهل والأبناء، وجدت شريط حياتي يمر أمامي في لحظة انكسار إنساني كنت أقاومها منذ فترة.

لم يهزمني الاعتقال ولا الإخفاء القسري ولا جهلي بما يدور حولي ومصيري المجهول، الذي تقودني إليه قوة عسكرية تتنقل بي منذ أسابيع بين أودية وجبال الصحراء، وأسلحتها الرشاشة مصوبة نحوي. لكني لما عرفت أني بتّ في حكم المنفي قسرا، خارت قواي، كما لو كان كل شيء بنيته يتداعى أمامي ويتحول إلى ذرات غبار ما تلبث أن تتلاشى في هذا الفضاء الواسع، لأعود إلى نقطة العدم الصفرية، التي يبدأ منها كل شيء. كما وقع لوالدي لما خرج من مستشفى مدينة السمارة بعد تعافيه من جرح الشظية التي أصابت رأسه في هجوم الجبهة على المدينة في 1979. وكان قبل أن يدخل المستشفى له زوجة و أبناء ويملك منزلا، أمضى سنين من عمره يكدح لكي يأوي فيه أسرته، وكان له جيران طيبون وأصدقاء وعشيرة، لكنه لم يجد غير ركام منزل تحيطه أبنية خالية على عروشها، كأنّ ريح عاد قد مرت واقتلعت من فيها.

وجدتُني أسبح في بحر من الذكريات، وأنا أعيد شريط حياتي الذي أنتجته الجبهة وأخرجت جل مشاهده على مقاسها.. عادت بي الذاكرة من أكتوبر 2010 إلى أكتوبر 1979. ورأيت ذلك الصبي الذي “حُرّر” منذ 31 سنة من أسر “الوحش”، وكيف احتفوا به في المخيمات. وتذكرت أول خيمة صغيرة بركيزة واحدة، وكيف أمضيت ساعات أركض في أرجائها الضيقة فرحا لأنه صارت لنا خيمة كالآخرين، بعد أن بتنا مشردين. وتذكرت يومي الدراسي الأول في مدرسة سعيد أصغير في مخيم العيون، وكيف عدت إلى والدتي أبكي من الحزن لأن درسنا كان ألف باء تاء ثاء.. وكيف أنهم أعادوني خمس سنين إلى الوراء..و وأظن أنه لولا الشفقة علي لكانت قالت لي إن قدَرنا يا بني أن نبدأ من جديد، وما أهون ما فقدت، إن كانت تبكيك مجرد خسارة خمس سنين.

كانت والدتي التي جئت أشكوها بثي وحزني ترقد داخل خيمة في مركز اسمه “الحماية” شُيد خارج مخيمنا، مخصص للنساء المصابات بفقر الدم والأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، بعد أن أنجبت أخي الصغير محمد لمين حديثا. ورغم همها وألمها، وككل الأمهات، لم تعدم الحيلة في التخفيف عني.

ولأنه لم يكن في مخيمنا غير تلك المدرسة حديثة النشأة وليس بها فوق المستوى الثاني ابتدائي، كان على والدتي أن تقاوم مرضها ووهن عظمها وأن تسير أربعة كيلومترات ذهابا وإيابا نحو مقر الوالي، عبد القادر طالب عمر، لتعرض عليه قضية تمدرسنا، أخي محمد الشيخ وأنا، وأن مستوانا فوق المستويات التي تدرّس في مدرسة المخيم.

بعد أيام، جاء أشخاص على شاحنة “إنيمونك” عسكرية يسألون عنا، ليأخذونا إلى مدرسة اسمها 9 يونيو، لا نعرف عنها سوى أنها مدرسة داخلية بعيدة عن مخيمنا، ومن ذهب إليها لا يعود قبل العطلة المدرسية.

لا أذكر بم زودتنا والدتنا للرحلة، ولا أظنه أكثر من الدعاء، فنحن حديثو عهد بالمخيم، وكل ما نملك تركناه خلفنا يوم “حُررنا”، ولم نسترح بعد. فما إن صارت لنا خيمة، منذ شهر ونصف الشهر، حتى فاجأ المخاض والدتي وانشغلت بنفسها، وليس لنا من معيل، بعد الله، إلا هي.

ولم تألف نفسي الصغيرة ذات الـ11 ربيعا فقدَ الأب بعد، حتى وجدتني أمام امتحان أشدّ وأصعب، فلأول مرة منذ ولادتي سأنفصل عن أمي.. وفي أية حال سأنفصل عنها!؟.. لقد كانت حديثة عهد بالولادة، بالكاد تقوى على المشي من شدة فقر الدم، ولها ثلاثة صبية صغار.

وللحكاية بقية.      

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *