أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

كما اليوم الأول لاختطافي، بدا حرّاسي الجدد على درجة عالية من الانضباط واليقظة. ويظهر أنه تم اختيار المعتقل الجديد بعناية، فـ”جحيفة ارغيوة” هي منطقة صخرية صعبة المسالك، وواديها عميق وضيّق، كثيف الأشجار، تحيط به الصخور من الجانبين.

لم يحصل أي تواصل بيني وبين السجانين الجدد قبل مساء ذلك اليوم، إلىأن توقفت إحدى سياراتهم بالقرب من الخيمة -الزنزانة الجديدة وطلبوا مني الصعود. وصعدت سيارتهم الرباعية المكشوفة، رفقة حارسين في الخلف، وانطلقوا في اتجاه مقر الناحية العسكرية الرابعة، حيث وجدت قاضي التحقيق في انتظاري.

كان اللقاء قصيرا، فقد جاء فقط ليعرض علي لائحة هيئة المحاماة لديهم لكي أختار منهم من سيدافع عني. أعدت عليه ما قلت في الجلسة الأولى أني وكّلت صهري، البشير ولد سيد احمادي، ليختار لي محاميا، فانا في منعزلي لا أعرف المتفرغ من المشغول منهم. وبالمناسبة، أخبرته بأنهم بنوا السجن الذي وعودوه به وبأن محبسي الجديد اسمه وادي اجحيفة وبأن زنزانتي لم تعد شجرة، بل أصبحت خيمة، والحمد لله. وانتهت الجلسة، لنعود إلى وادي اجحيفة، الذي يخجلني أن أسميه “معتقل”، ولكن الجبهة جعلته كذلك.

في المعتقل الجديد، وبعد وجبة العشاء، أتى أحد الحارسين المسؤولين عن الاتصال معي وفرش فرشه قرب باب الخيمة، بينما يتناوب بقية الحراس على حراسة محيط الخيمة، بمعدل ساعة ونصف أو ساعتين للنوبة. فقد كنت أسمع وقع أحذيتهم كلما تغيرت المناوبة وأرى ضوء المصباح اليدوي للحارس الجديد الذي يتفقد الخيمة، وهل ما زلت فيها أم لا.

في زوال اليوم الثاني، تفاجأ الحراس بأحد البدو يدخل المعتقل دون سابق إنذار، لا هو تفطّن و لا هم، حتى صار في بطن الوادي. فهرع إليه بعض الجنود وأخرجوه من الوادي. ثم عادوا إلي وطلبوا مني الخروج من الخيمة وفكّكوها في دقائق معدودات.. وصعدنا إلى السيارات وغادرنا إلى جهة أخرى من الوادي نفسه، على مقربة من جبال “رغيوة”، وأعادوا نصب الزنزانة المتنقلة.

تنقلنا بعد ذلك مرتين، قبل أن يستقر المعتقل في وادي “لمطيليني”، قرب “العكلة”،  وهو مكان من الوادي ليس له إلا مدخل واحد، تحيطه مرتفعات عالية وتسهل مراقبته.

في هذه المرحلة لم أسجل غير حادثة واحدة، وقعت في حدود الرابعة فجرا من إحدى ليالي الشتاء الطويلة خلال مبادلة الحراس. كان الحارس الجديد يتقدم موجها مصباحا يدويا في يده نحو باب الخيمة حيث كنت جالسا وقد جافاني النوم. طلبت منه أن يوجّه مصباحه بعيدا عن وجهي، فرفض. أعدتها له مرتين وأبى. طلبت منه أن ينادي قائده فأبى أيضا. عندئذ ارتديت ملابسي وخرجت من الخيمة وقلت له أخبر قائدك بأني ذاهب من هذا المكان حالا..

سمع بعض الحراس الضجة فأيقظوا قائدهم، الذي أتى على جناح السرعة، ليستطلع الأمر. قلت له إذا كنتم تظنون أني ما زلت هنا بسبب حراستكم لي، فعليكم أن تربطوني مع جذع الشجرة التي تجاور الخيمة، وإلا فإني مغادر حالا.

اعتذر لي قائد المعتقل عما وقع وقال إن قائد درك الجبهة لما كلفه بمهمة حراستي قال له إن مهمتهم هي تأميني، لا أقل ولا أكثر، فإن كانت الجبهة ستقتلني أو ترسلني إلى الحج، فهذا لا يعنيهم هم في شيء. ومن أخطا من الجنود الذين برفقته، مهما كان خطأه بسيطا، يعيده الى الرابوني في الحال، وأنه في الصباح سيرسل الجندي الذي خالف الأوامر الى المخيمات.

قبلت اعتذاره وطلبت منه أن يلتزم جنوده حدود اللياقة ويتعاملون معي بالاحترام الذي أبادلهم. “فمشكلتي ليست معكم وأعرف أنكم جنود مأمورون”. وعدت إلى خيمتي ويومياتي الرتيبة معزولا في بطن واد، لا أعرف ماذا يجري على بعد أمتار مني فبالأحرى ماذا فعل الله بأبنائي ووالدتي، الذين لاأعرف عنهم شيئا منذ قرابة 20 يوما.

تعلمت، منذ الأيام الاولى للعزلة، أن عليك ألا تترك مجالا للفراغ، وأن عليك أن تشغل نفسك وأن يكون لديك جدول يوميّ مضبوط بدقة يغطي اليوم كله، حتى لا تصاب بالأرق وتنهكك الهواجس. وعليك أن تنشغل بجسمك ووجدانك مع كل ما تقوم به، حتى ولو كان إشعال بعض العيدان لنار الشّاي، كأن تنتقيها بعناية وتميز الأخضر منها من اليابس وما يصلح أن يوضع أولا وما يجب تأخيره.. فإعداد الشاي الصباحي يجب أن يشغل، على الأقل، ساعة من وقتك. ثم يأتي وقت حفظ القرآن. وكنت أجبر نفسي على حفظ “ثمن” في اليوم ويأخذ ساعتين إلى ثلاث، بين الحفظ والمراجعة. ثم يأتي وقت الرياضة، نصف ساعة تقريبا، تعقبها الاستراحة وتناول الغداء والقيلولة، التي يجب ألا تطول، حتى لا أصاب بالأرق ليلا. تعقبها ساعة شاي، ثم ساعة مشي ومراقبة الموجودات من حولي. وبعد صلاة المغرب، أنشغل بتلاوة ما حفظت من القرآن. حتى يحين وقت العشاء، ثم النوم مباشرة. ورغم ذلك فقد كان الفراغ قاتلا والصّمت رهيبا، فلولا أنني كنت أقرأ القرآن بصوت مرتفع لكنت متّ من الضجر..

كان علي ألا أستسلم للإحباط، فعندما يقذف بك وحيدا معزولا بين الأشجار، لا ترى ولا ترى، إنما يراد لك أن تشعر بالإهمال وباللاشيء الذي يريدونك ان تكونه.

كان إحساسي بالظلم هو ما يحرّضني على أن أبقى واقفا، صابرا، محتسبا في مواجهة سجّان يعاملني من وراء جدار، خجلا من الظهور أمامني. وكنت متيقنا من أنه قريبا سيكشف عن وجهه، بعدأن استنفذ كل حيله.

وللحكاية بقية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *