إسطنبول: لمياء ضاكة

 

ليست تركيا الدولة الأولى التي انسحبت من “اتفاقية إسطنبول” المناهضة للعنف ضد المرأة، لكن حجم وحدة ردود الفعل والانتقادات التي خلفها القرار لدى أطراف داخلية وخارجية، تعكس “حساسية” الخطوة بالنسبة لتركيا المدافعة عن القيم المجتمعية المحافظة، وكذا بالنسبة لتركيا العلمانية الطامحة للانضمام للاتحاد الأوروبي؛ ليصبح القرار رسالة من حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى أكثر من جهة.

فبمجرد الإعلان عن قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أول أمس السبت، الانسحاب الرسمي من اتفاقية المجلس الأوروبي المعنية بوقف العنف ضد المرأة والعنف الأسري ومكافحتهما ومقاضاة مرتكبيهما، التي صادقت عليها أنقرة سنة 2011، كونها “لا تنسجم مع القيم التركية، وقد تم التلاعب بها من قبل شرائح ساعية إلى تطبيع المثلية”، تناسلت القراءات وتباينت المواقف بين من رأى فيها رسالة تودد من الحزب الحاكم لأحزاب محافظة قصد استمالتها لتشكيل تحالفات في أفق الاستحقاقات المقبلة تضمن له الاستمرار في السلطة، ومن اعتبرها رسالة للاتحاد الأوروبي المتمنع أمام مشروع الانضمام تفيد بأن أنقرة لديها خيارات أخرى خارج عباءة الاتحاد.

وإن لم تكن تركيا أول بلد ينسحب من الاتفاقية، فقد سبقتها إلى إجراءات الخروج بولونيا ولم تصدق عليها 6 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي بلغاريا والمجر والتشيك ولاتفيا وليتوانيا وسلوفاكيا، إلا أن الاعلان عن تراجعها عن الاتفاقية أثار زوبعة من الانتقادات، حيث وصف مجلس أوروبا الانسحاب بأنه “نبأ مدمر ويهدد حماية المرأة” في تركيا، بينما اعتبرته ألمانيا “إشارة خاطئة إلى أوروبا”، ورأت فيه فرنسا “تراجعا جديدا في ما يخص احترام حقوق الإنسان”، أما الولايات المتحدة فقد وصفته بـ “الخطوة المخيبة للآمال”.

**الانسحاب من اتفاقية إسطنبول.. ملف آخر يعمق انقسام المشهد السياسي الداخلي** 

دعوات الانسحاب من الاتفاقية ليست بحديثة عهد على المشهد المجتمعي والسياسي التركي، فمنذ سنوات تعالت الأصوات القومية والمحافظة منادية بالتراجع عن الاتفاقية لكونها تساهم في “تفتيت الأسرة، وإضعاف بنيتها الاجتماعية والدينية والأخلاقية وتشرعن المثلية الجنسية”، مسجلة أن الانضمام لها تم في سياق سياسي معين اتسم بتقديم “تنازلات”، بعد تبني معايير أوروبية ذات صلة بحقوق الانسان لتعبيد الطريق أمام العضوية في الاتحاد الأوروبي.

بالمقابل، تلقت أحزاب من المعارضة وقوى يسارية وجمعيات حماية المرأة قرار الانسحاب من الاتفاقية بموجة غضب عارم، وسارعت إلى تنظيم تظاهرات ومسيرات مناهضة وصفت الخطوة ب”الانتكاسة”؛ وحذرت من أنها ستوقع على تراجع خطير في حقوق الانسان بالبلاد، وستشجع على المزيد من الانتهاكات ضد المرأة وازدياد حوادث العنف ضدها المرتفعة أصلا، والأخطر من ذلك ترسيخ ظاهرة الإفلات من العقاب.

أما تركيا الرسمية فقد دافعت عن القرار من خلال التأكيد على أن الاتفاقية ليست تشريعا ملزما، بل إطارا للتعاون على المستوى الدولي يتيح في مادته 80 لأي من الأطراف الانسحاب منها من خلال إبلاغ المجلس الأوروبي، مؤكدة أن “تركيا، التي لن تتخلى عن مكافحة العنف المنزلي وحماية المرأة حتى بعد أن انسحبت من الاتفاقية، اتخذت خطوات ملموسة عديدة لدعم حقوق المرأة وتحسينها، وستقوم بإجراء إصلاحات من أجل مكافحة العنف ضد المرأة”.

من جانبهم، أصدر العديد من السياسيين طيلة نهاية الأسبوع تصريحات مطمئنة،  ومن بينهم وزير الداخلية الذي أكد أن بلاده تتوفر على تشريعات مدنية وجنائية قوية لحماية المرأة، مبرزا أن معدل الجرائم المرتكبة ضدها لايتجاوز 3,8 بتركيا من بين كل مليون شخص، مقابل 13 عالميا و7 أوروبيا، ومسجلا أن مليون و661 ألفا و198 شخصا حملوا “تطبيق دعم المرأة” (KADES) على هواتفهم، تلقت من خلاله الوزارة 98 ألفا و639 بلاغا.

**قرار الانسحاب من اتفاقية.. سياسي بحت يعطي الأولوية للأجندة الداخلية **         

في سياق علاقات متشنجة مع الاتحاد الأوروبي حول أزيد من ملف، وفي مقدمتها أزمة شرق المتوسط والتدخل التركي المتصاعد في سوريا وليبيا، والتقارب مع روسيا، وأمام ترهل الاتحاد بعد البريكست، وتنامي النزعة الفردانية على وقع أزمة “كوفيد-19″، يبدو أن الانضمام للاتحاد لم يعد مشروعا “مغريا أو واعدا” بالنسبة لأنقرة التي أضحت تتوفر على بدائل أخرى لضمان مصالحها في إطار تحالفات استراتيجية إقليمية ودولية.

وفي هذا الصدد، يعتقد محللون سياسيون أن حزب العدالة والتنمية الحاكم يدرك أن التحدي الداخلي المتمثل في رص صفوفه واستقطاب حلفاء جدد، يشكل في الوقت الراهن، أولوية مقارنة مع الاشتغال على مشروع الانضمام، وهو الذي يعي تماما أن المعارضة ستستغل هذا التراجع عن الاتفاقية لاستقطاب التيار اليساري العلماني وأصوات النساء في الاستحقاقات المقبلة.

الحزب الحاكم، يقول المحللون، وقع على الاتفاقية في ظروف معينة و”لم يكن مؤمنا بالأساس بها وإنما اضطر للتوقيع عليها ضمن الكثير من التنازلات التي قدمها في إطار مساعيه لدفع ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن ومع تراجع فرص الانضمام الذي لم يعد على أجندة الحزب، فإنه غلب مصالح أخرى وحسابات داخلية مختلفة هذه المرة”.

وبالنظر إلى توقيت اتخاذ القرار، يتبين أن الحزب الحاكم، الذي يشهد تراجعا في شعبيته على وقع عديد من التحديات الداخلية والخارجية، وفي مقدمتها ركود اقتصادي حاد، يشتغل على تأسيس تحالفات في أفق الاستحقاقات الانتخابية المقبلة من خلال استمالة أحزاب محافظة رافضة للاتفاقية وتضع الانسحاب منها شرطا للنظر في أي تحالف متوقع.

قرار الانسحاب من “اتفاقية إسطنبول” ما كان ليثير هذا الكم الهائل من الجدل السياسي لو لم يكن ورقة استباقية أخرجها الحزب الحاكم في السياق الحالي الذي تتحكم فيه الكثير من حسابات الربح والخسارة؛ فالانسحاب من الاتفاقية لن يجعل المرأة التركية عرضة لمزيد من الخطر في ظل تشريعات وطنية قائمة، كما أن الانضمام لها لم يكن تلك العصى السحرية التي رفعت المعاناة عنها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *