محمد الجلايدي

“أخي !

ويحق لكَ عليّ أن أناديك « أخي » من دون الحاجة إلى أحرف النداء ، لا الخاصة بالبعيد ولا الخاصة بالقريب ! لأنك كُنتَ دوما أقرب إلى قلبي ، مثلما كنتُ دوما أقرب إلى قلبك الكبير ! وهذا القرب كان مخضلا بحِنّـاء الصدق المتبادل في القضية التي ربطتنا ومن أجلها ! وكنتَ لي فيها مثالا للمناضل الوطني المخلص لقضايا وطنه ، من موقع الكفاح العمالي دفاعا عن المطالب العادلة للطبقة العاملة المغربية وعموم الجماهير الشعبية الكادحة ببلادنا !

 

-أخي !

  لقد كُنتَ لي صديقا ورفيقا وأخا .. وكنتَ لي بوجدانك النظيف بمثابة أب حنون ، عطوف ، متفهم ، ومُقـدِّر  .. لذلك فقدتُ برحيلك كل هذه الروابط فيك دفعة واحدة ، وعلى حين غرة  ! هكذا أحسست عندما هاتفني الأخ عبدالسلام بن ابراهيم ليخبرني بعد ساعات قليلة على رحيلك ! لقد تلقيت الخبر منه ، وقلبي يعتصره الحزن ، ووجداني تُـمَـلِّـخه لوعات الرحيل التي توالت تباعا ! إلى درجة لم أعد معها أخشى شيئا في هذه الحياة إلا من أمر واحد : رحيل الأحبة المفاجئ وتوديعهم بلا طقوس الوداع ، في هذا الزمن الكوروني المقيت !

-أخي !

 رحم الله زمنا كان فيه الكفاح بنزاهة فكرية وسلوكية وساما وشارة ! وهذا الوسام وهذه الشارة لم يكن يمتلكها إلا الشجعان في ساحة الوغى ، بشقيها السياسي والاجتماعي ! وأنت واحد من هؤلاء الشجعان الذين اختاروا الربط الجدلي بين قيادة كفاح العمال والمسألة الديموقراطية ! ووضعت رهن إشارة هذا المبتغى النبيل كل قدراتك الفكرية والمهنية ! دون أن يغيب عن وعيك ولو للحظة واحدة ، دورك كـ (طبيب – أستاذ) :  «الإنسانَ» مجرداً وبالمطلق ! 

-أخي !

أذكر في هذا السياق الإنساني مهنيا ، نادرة من النوادر عشتَها وأنت بسجن لعلو ! سمعتُ بها عنك ، ولأتأكد من صحتها ، طلبتُ منك حكيها لي فحكيتَ والبسمة لا تفارق محياك ! سقط السجّان بنوبة قلبية ، فهرعتَ لعلاجه ! ولما وقف لك الرفاق ، أقنعتهم بأن المريض في اللحظة تلك هو إنسان وأن الطبيب الأقرب إلى نجدته هو أنت ! ولا يمكن أن يُسَجَّل عليك أنك لم تسعف مريضا كان في حاجة إليك ! فاقتنع الرفاق ، وعالجتَ السجّان وأنت سجين ! وبعد خبر رحيلك بساعات ، كتب لي صديقك وصديقنا الدكتور عبد الرحيم سورات ، يذكرني بروعة العلاقة بينكما تأطيرا وسلوكا ! ولم ينس أنك كُنتَ تستيقظ يوميا عند الفجر ، تصلي ، وتنطلق إلى المستشفى لتخصص ساعتين لعلاج مرضى القلب من الفقراء والمعوزين ! وعند الثامنة صباحا تنطلق في عملك الرسمي ! 

-أخي !

لم يجبرك أحد على اختيار النضال من أجل قضايا الطبقة العاملة شرطا لوجودك كإنسان وكمواطن ! فما قادك إلى هذا الاختيار تحديدا ، هو قناعتك الفكرية بجدوى ربط نضال العمال المطلبي العادل ، بنضال عموم جماهير شعبنا من أجل الديموقراطية ! فالنضال الاجتماعي زراعة والنضال السياسي حصاد لصالح الديموقراطية . لذلك ، وعلى مدى عمرك النضالي ، كُنتَ القائد والمساهم بفعالية ، وبصدق ، وبنزاهة فكرية معللة ، لمعادلة النضال الديموقراطي الشمولي على كافة الواجهات ! وهي المعادلة التي وفرت للكونفدرالية الديمقراطية شرط الوجود في 18 نونبر سنة 1978 . وكنتَ فيها القائد المؤسس والصادق المخلص . ولم يكن عبثا أو تزلُّفا ، أن لقّبناك بإجماع إخوتك بهذا اللقب الذي نلته عن جدارة واستحقاق :

-(عبد المجيد بوزوبع : جوهرة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل ! 

والعمل النقابي البديل والأصيل ! )

-أخي !

لقد عشتَ أزهى فترة نضالية في تاريخ شعبنا . وكنتَ من صُنّـاع تاريخها ! تلك الفترة التي  كانت خلالها الميكانيزمات الحركية سياسيا ونقابيا وثقافيا وحقوقيا ، تتحرك على جميع الجبهات ، تجسيداً لمفهوم النضال الديموقراطي الشمولي ! ووفاء للخط الذي وضع لبناته شهداء عظام أمثال المهدي وعمر وگرينة وسعيدة .. ( واللائحة طويلة ! ) . وكنتَ في هذه الفترة أيضا ، مثالا للسخاء النضالي ، والعطاء بفعالية مبهرة ، وبخلق المؤمن المسلح بالأخلاق الفاضلة وبالقيم الإنسانية النبيلة ..وكنتَ خير مجسد لجدلية السياسي والاجتماعي فكراً وممارسة ! كمرجعية لاختيارات المؤتمر الاستثنائي للاتحادالاشتراكي للقوات الشعبية في دجنبر من سنة 1975 .

-أخي !

لذلك ، لم يكن سهلا عليك ، قبول ريح « الاختزالية الانتخابية » ! التي دبَّـجها «بعضهم» لتغيير سكة الكفاح ، باعتماد شعار «التغيير من داخل المشاركة الحكومية»! أولئك الذين نعتناهم بـ « الصيارفة » يومها ! أذكر بوضوح الشمس في هجيرة يوم صيفي ، قتالَك الداخلي من إجل الحفاظ على رصيد ميزان القوة لصالح الديموقراطية وما راكمه كفاح شعبنا بهذا الخصوص ! عانيتَ ! ومعك ثلة ممن لم يبدلوا تبديلا ! ورغم الضربات من ذوي القربى في الأدوات الكفاحية تلك ، كنت تحافظ على الوقفة السوية ، لتمنح الثلة تلك القدرة على الصمود ! خوفا من دخول المشهد ودفاتره الكفاحية وميكانيزماته الحركية المناضلة ، في دهاليز السريالية السياسية ! ولم تكن على خطإ في هذا المنحى ! فها نحن الآن بعد هذا المسار الانزياحي ، نعيش على إيقاع القول المأثور :  -( لا ديدي لا حَبْ لَمْلوك ) ! 

بعد أزيد من عقدين على هذه «التجربة» وهذا «الاختيار» غير البريئين  ! فلو كانت البراءة هنا ،  لأمكننا القول بأنها «سذاجة» ! والسذاجة تكون كذلك ، إذا لم تفضحها المصالح الأنانية المريضة !

-أخي !

على كل حال ، ليس المجال في هذا المقام لهذا المقال الآن ! فالخطب في رحيلك أعظم ! وذكراك في كياني أعظم ! ورحيلك قاسٍ على القلب ومؤلم للوجدان ! لأنه رحيل رجلٍ  ساهم بتفان في صنع تاريخ النضال الديموقراطي في بلده ، وللتاريخ – الحقيقي لا المزيف – قواعده في التدوين ! 

-أخي !

تعرف جيداً أنني لا أجامل ، ولا أخشى في قول الحق لومة لائم . لذلك أخاطبك بالعقل والوجدانُ مكلوم ، لأقول لك وبالفم الملآن فخراً واعتزازاً :

-لقد عشتَ مكافحا نظيفا ، وقدمتَ بسخاء وبلا مَنٍّ ما أمكنك للطبقة العاملة وجماهير شعبنا ! وبدلت كل جهودك ما في وسعك أن تَبـدُل ، من أجل أدوات كفاح مالكة لميزان القوة ، قادرة على طرح قضايا المسألة الاجتماعية التي هي في جوهرها قضايا ديموقراطية ! كان حلمك ، مغرب قوي بدولته ومؤسساته وأغلبيته السياسية التي تفرزها صناديق الاقتراع ، ومعارضته البناءة والفاعلة ! وعلى قاعدة مفهوم الإنابة الديموقراطي ، الذي لا يقبل الجرعات ! ولا التعامل بمنطق «المسلسل» الذي يبدأ وليس له نهاية !

-أخي :

  لقد جسدتَ بتجربتك النضالية والإنسانية ، قول الشاعر :

عِش عزيزاً أو مُتْ وأنت كريم ~بين طعن القنا وخفق البنود !

 ⁃ وعلى خلافٍ مع هذا الشاعر في البيت الموالي :

بقومك شَرُفتَ وبك شَرُفوا ~وبقومك فخرتَ وبك فخروا

-أخي :

الرحمة لروحك . الصبر لعائلتك . الصبر لكل من أحبك بنظافة كنظافة قلبك . وعزائي فيك جمال اللحظات التي عشناها في القضية ومن أجلها . وقساوة اللحظات الي تقاسمنا مراراتها أيضا. والتي ورغمها أشهد بأننا عشنا ورأينا وشبعنا ، وما بقي بعده كان فضلا ! فإلى الملتقى هناك أيها العزيز الغالي ..

*قاص مغربي

                                    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *