اشتقت إليك، ضاقت عليّ دنيا لا أراك بها. اعتدت في كل صباح أن أمر عليك قبل ذهابي إلى العمل. فأجدك بباب الدار تتنقلين بعينيك الواسعتين حتى إذا استقرتا على شبحي القادم علت محياك بسمة صافية.. أقبّل يدك الكريمة على شذرات دعواتك لي بالرضى والفلاح. وتتبدل سحنتك وأنت تحذرينني من آفات الطريق وكيد الناس..

أنا يا أمي احترست من حوادث الطريق ولم أحترس من غدر الناس. لم يثنهم الملح والماء والطعام المشترك عن فعل الشر فكادوا. وسنختصم عند رب العالمين. فموعدنا الصبحّ وإنّ الصبح لَقريب.

واشتقت إليك. اعتدت جلوسك إلى جانبي بالسيارة، نجوب معا مدينتنا سلا الحبيبة وضواحيها. وأرهف السمع إلى حكاياتك مع أبي، رحمه الله، ومع الجيرة. ثم نقف أمام عربة الفاكهاني فاشتري لك الموز، فهو يسير على الأكل. ونعود من حيث أتينا وقد انشرح قلبانا لتنامي هادئة البال.

واشتقت إليك.. فراغك قاتل موجع. فقد كنت مخدع هاتف الفؤاد، ومربط فرس الغضب والإنفعال، وصمام الأمان وحبيبتي ورفيقتي وصديقتي وبلسم دائي ووسادة راحتي.. عندما أجدك ساهمة أو غاضبة أو مريضة، أعرض عن كل همومي ومشاغلي وأقول لنفسي إذا صح منك يا أمي الود والرضى فالكل هيّن..

هكذا كان إحساسي لما أترك الدنيا ورائي وأهرع إليك.. يا للذة السفر السعيد وأنا وأنت في الطريق إلى الولي الصالح مولاي عبد الله الشريف في وزان.. نفترش الحصير، وتتعالى ابتهالات ودعوات المقرئين من أفراد عائلتك. ونتلذذ بالرغيف الطازج العائم في أديم السمن والعسل. ونتناول وجبة الغداء في السوق الشعبي، ثم نقغل راجعين مع الأصيل على إيقاع زغاريد أسراب الطيور وهي عائدة إلى اعشاشها راضية مطمئنة.

واشتقت إليك يا أمي.. يا حبيبتي.. حمدت الله إن مسني الضر وأنت بين يديه عز وجل. وعلمت أنه، سبحانه وتعالى، ما أرادك أن تتألمي لحالي. فلطالما نبّهتني إلى ألا أبالغ في عفويتي وحسن نيتي.. وما زلت أ سمعك تقولين “رد بالك من اللي كيضحك ليك فوجهك”، ولكن الطبع يغلب التطبّع! أنا على يقين يا أمي أنك علمت بحالي يوم زرت قبرك. وقد بللت ربيعه بدموعي. فقد حكيتِ لنا ونحن صغار كيف يصطفّ الراحلون إلى ملكوت الله كل يوم جمعة في انتظار أقربائهم. وقد أتيت وحكيت لك ماجرى. وشاهدتك بعين الخيال غاضبة من فعلة الأشرار. تلك الكتيبة التي أزعجها حبي الصادق لمهنتي ووطني وبني وطني، فأرادت أن تصادر قلمي وطموحي بالكذب والافتراء والحيلة لتعدمني بالموت المدني واستدراج فاعل معنوي لإيذائي.

وشاهدت بذات العين يد التأييد والرضى والأمل.. فبهم أعيش، سواء كنت معي حية ترزقين أم في جنات النعيم، فأنت معي في كل وقت وحين.

حبيبتي، ست الحبايب، أمي، هذا يوم جمعة، سأقف مثلما اعتدت أن أقف على قبرك وأدعو لك بالرحمة والمغفرة. فادعي لي بالصبر والقدرة على التحمّل وارضي عني واطلبي الله أن ينصرني على من كادوا لي…

أنا، يا من تفترشين تحت قدميك تراب الجنة، اقرأ الآن قول الله عز وجل {ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة. وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} *صدق الله العظيم.. شكرا لمن أرقت تسامر ليلها وتداعب النوم العنيد بأعيني. شكرا لراوية شربت بكأسها نخب الخيال المستحيل الممكن. من كل حرف للهجاء كتبته لك فضله، أفلستِ مَن علمتني. يا جنة وقفت علي قطافها.. شكرا على كل الذي أهديتني، اشتقت إليك. رحمك الله في يوم عيد المؤمنين. جمعة مباركة: ست الحبايب. ولدك رشيد..

*رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *