كغيرها من طرق التصوف، تؤمن البودشيشية بمحورية “الشيخ” الذي “يحجّ” إليه المريدون من كل البقاع للتبرّك برؤيته وبلمسه. 

إعداد – عبد الرزاق المراكشي -le12

“المغرب بلد الأولياء الصّالحين”.. مقولة تعكس المكانة الخاصّة التي يحظى بها التصوّف في المملكة المغربية، التي يمتدّ فيها الفكر والسلوك الصوفيان إلى أزمنة بعيدة..

لو كنت مواطنا مغربيا، لربّما ساقتك الأقدار لأن تُجاوِر أحدَ هذه المباني الصّغيرة المسمّاة “الزاوية”. فيها تقام الصّلوات الخمس في أوقاتها، باستثناء صلاة الجمعة. 

كما يُتلى في هذه “الرّباطات” القرآن وتقام العديد من العبادات التعبّدية الأخرى.

بمناسبة شهر رمضان المبارك، تقترح عليكم”Le12.ma” رحلة تاريخية في رحاب أشهر الزوايا والطرق الصّوفية في المغرب.

الزاوية البودشيشية.. 

تأسّست الطريقة البودشيشية في القرن الخامس الهجري على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني. وعُرفت الطريقة في المغرب باسم “البودشيشية” لأنّ أحد شيوخها كان يطعم الناس أكلة “الدشيشة” خلال أيام المجاعة، وهي أكل شعبية بسيطة شهيرة تشبه البرغل. ويُطلَق على المريد اسم “الفقير”، في إشارة إلى قيمة التواضع والزّهد والفقر إلى رحمة الله.

تنظّم الطريقة، التي يوجد مقرها في قرية مداغ في إقليم بركان (شرق المغرب -قرب الحدود المغربية الجزائرية) لقاءين سنويين يحضرهما أكثر من 250 ألف شخص، أولهما ليلة 27 رمضان المعظم، التي يعتقد كثير من المسلمين أنها “ليلة القدر”، وثانيهما في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.

وتعود جذور الطريقة الصوفية القادرية البودشيشية إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، وقد ذاع صيتها في المغرب وانتشرت انتشارا واسعا في النصف الثاني من القرن العشرين. وشكّلت الزاوية موضوع انتقادات من أطرافتتّهمها بارتكاب “مخالفات شرعية” والعمل لصالح النظام، بينما تنفي الطريقة هذا الأمر، مُشدّدة على أن هدفها يقتصر على التزكية الروحية والنفسية لمريديها وأتباعها.

يتصل “السّند الروحي” للبوديشية، بحسب “معلمة المغرب” -الجزء الخامس، بالشيخ عبد القادر الجيلاني. 

وكان “عمدة الشيخ أبو مدين في طريق التصوف خاصة هو ابن عمّه المجاهد سيدي المختار (ت. 1914 م) وهو جد سيدي حمزة لأبيه. وقد أخذ سيدي المختار عن والده الشيخ الحاج محيي الدين، عن الحاج المختار، عن الشيخ المختار -الأول- عن سيدي محمد -فتحا- عن سيدي علي، عن أبي دشيش، عن سيدي محمد، عن سيدي محمد، عن سيدي محمد (ثلاثة محمدين على التوالي) عن الشيخ أبي دخيل، عن سيدي الحسن، عن سيدي شعيب، عن سيدي علي، عن سيدي عبد القادر، عن سيدي محمد، عن سيدي محمد -محمدان اثنان-، عن سيدي عبد الرزاق -الثاني عن سيدي إسماعيل، عن الشيخ عبد الرزاق -الأول- عن والده الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين عبد القادر الجيلاني سنده إلى مولانا رسول الله”.

كغيرها من طرق التصوف، تؤمن البودشيشية بمحورية “الشيخ” الذي “يحجّ” إليه المريدون من كل البقاع للتبرّك برؤيته وبلمسه. 

ويشرع الكثيرون منهم لدى رؤيته.. إذ لا بد بالنسبة إلى المريد من وجود شيخ مُربّ. وفي هذا السياق قال أحد المنتسبين إلى الطريقة: “كما أن المرء لا يرى عيوب وجهه إلا في مرآة صافية مستوية تكشف له حقيقة حاله، فكذلك لا بدّ للمؤمن من صاحب كامل يرى في كماله نقائصَ نفسه ليعالجها”.

لا تظهر من خلال أدبيات البودشيشية المنشورة فيالإنترنت حقيقةُ مواقفها من القضايا الكبرى المثيرة للجدل التي اشتهرت بها الطرق والزوايا في المغرب، مثل نظرية الحلول والمشاهدات. 

في المقابل، يكتفي “الشّيخ” بتوضيح الأذكار التي يُردّدها المريدون (الفقراء) مؤكدا أنها أذكار “مأذونة”، أي أنه قد أُذن بها للشيخ من الله تعالى ورسوله، وهو كلام يواجهه المعارضون بانتقادات لاذعة.

يُشدّد المنتسبون إلى البودشيشية على أنها تشتغل على تزكية النفوس ليس إلا، ولا علاقة لها بالسياسة ولا بالتطاحنات السياسية الداخلية.

 وللوصول بالنفوس إلى الصفاء الروحي يلتزم “الفْقير”، خاصة بعد صلاة المغرب،بقراءة القرآن وتلاوة الأذكار الخاصة بالطريقة، والتي أذن بها الشيخ، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وللمريد، بحسب أدبيات الطريقة، آداب عليه الالتزام بها في علاقته بالشيخ، منها “الامتثال لشيخه امتثال المريض لطبيبه”، و”أن يعتقد فيه تمام أهليته للتربية والإرشاد”، و”أن يكون صادقا في طلبه للحق، مع تجريد إرادته عن الأغراض والمصالح”، كما ينبغي له “أن يُعظّم شيخه ويحفظ حرمته حاضرا وغائبا”، و”أن يحسن الظنّ بإخوانه ولا يشتغل بعيوبهم ويكِلَ أمرهم إلى الله تعالى”، و”أن يتواضع لهم وينظر إليهم بعين التعظيم حتى يستمد من أنوارهم”.

وينبغي أن تتوفر، بحسب الطريقة، أربعة شروط لكي يصل المرء إلى مرتبة “شيخ الطريقة” وينال مقام التربية والإرشاد، أولها العلم بـ”الفرائض العينية”، وثانيها “أن يكون عارفا بالله”، والثالثة أن “يكون خبيرا بطريقة تزكية النفوس”، والرابعة “أن يكون مأذونا في التربية والإرشاد”. 

وبحسب مصادر الطريقة، فإن من علامات الشيخ “أنك إذا جالسته تشعر بنفحة إيمانية ومدد غيبيّ يسري منه” و”أنك تنتفع به قريبا أو بعيدا بشرط التصديق به كما تستفيد من كلامه وحركته وسكونه”. وبحسب أدبيات البودشيشية، فإن من يؤدي الأذكار بعيدا عن الشيخ كمن يتعاطى الدواء دون وصفة الطبيب..

يعدّ الشيخ المختار القادري بودشيش أحد أبرز شيوخ البودشيشية في القرن العشرين. واشتهر هذا الشيخ، بحسب أدبيات الطريقة، بمقاومته للاحتلال الفرنسي بقيادة الجنرال ليوطي، الذي دخل المغرب من الجهة الشرقية، من الجزائر المحتلة وقتئذ، إذ التفّت العديد من القبائل حول الشيخ المختار وحاربت المحتلّ، لكن الأخير أفلح في ردع المقاومين واحتلال المنطقة، ليصل بعد ذلك إلى مقرّ الزاوية ويخرّبه ويعتقل الشيخ.

بعد وفاة الشيخ أبي مدين القادري البودشيشي (في1955) آلت “مشيخة” الطريقة إلى الشيخ العباس، الذي ذاع صيت الطريقة في عهده، وتَعزّزت هذه الشّهرة في عهد ابنه الشيخ سيدي حمزة القادري البودشيشي، الذي تزَعّم الطريقة في 1972 بعد وفاة والده. 

جدّد الشيخ حمزة، بحسب مصادر الطريقة، أذكارها و”نظم سيرها، ما زاد في إحيائها وتنشيطها”، وأسهم في نشر الطريقة في مختلف المناطق المغربية، علما بأن الساحة الصوفية في المغرب تشهد منافسة شرسة بين الطرق والزّوايا، وفي مقدمتها الطريقان التيجانية والبودشيشية.

وبحسب مصادر الطريقة دائما، فقد انخرط الشيخ حمزة في جيش التحرير المغربي الذي قاوم الاحتلال الفرنسي، حمى عددا من المقاومين الذين فرّوا من جنود الاحتلال الفرنسي ووفر لهم المأكل والمشرب.

وبعد وفاة الشيخ حمزة (في 18 يناير 2017) رجّح مراقبون أن يخلفه نجله الشيخ جمال، الذي كان يَلزم والده ويحضر أنشطة الطريقة المختلفة، بينما واصل حفيده منير أداء مهمة الناطق الرسمي باسم الطريقة.

وتُشكّل الطريقة البودشيشية موضوع انتقادات لاذعة، بعضها شرعي، وبعضها مرتبط بالأدوار السياسية التي تؤديها. 

ويحرص المنتقدون في كل مناسبة على التنديد بمظاهر “تقديس” الشيخ، كالتبرك بلمسه، والصراخ عند رؤيته، والتوسل به وبشيوخ الطريقة لنيل “البركات”.. 

وبحسب المنتقدين فقد ابتدعت الطريقة مأثوراتٍ وأدعيةً لا تأصيلَ شرعيا لها، موضحين أنها بدعٌ ما أنزل الله بها من سلطان وأن كل “الأسرار” المحيطة بأدبيات الزاوية هي مجرد تغطية تحجب أيّ تحليل علمي لما يزعمه أهلها. كما يواجه المنتقدون البودشيشية بأنها تؤدي أدوارا سياسية لفائدة النظام، الذي يتواصل معها كلما احتاج دعما جماهيريا. 

لكنّ معتنقي الطريقة ينفون هذه الاتهامات، مُشدّدين علىأن أتباع الزاوية لا “يعبدون” الشيخ، بل يعبدون الله ولا يشركون به شيئا، وأن مظاهر تكريم شيخ الطريقة لا تعدو أن تكون تعبيرا عن تقدير المريدين للشيخ “المربي صاحب الإذن”، المشير إلى تهذيب النفوس وتصفيتها وتنقيتها من شوائب المادية الجافة، ويدعون الناس إلى الاطلاع عن قرب على الطريقة وأدبياتها وإصدار أحكام مبنية على حقائق على أفكارها. 

وينفي أن يكون للزاوية أيّ طموح سياسي أو دوافع من أجل الوصول إلى السلطة، رغم أنهم يعترفون بأن الطريقة تتدخّل فقط في “المنعطفات الإستراتيجية الكبرى” بغاية تحقيق وحدة المغرب واستقراره.

ولعلّ أوضح مثال على ذلك نزول أتباع البودشيشية لدعم الدستور الجديد في 2011 بعد اندلاع ثورات “الربيع العربي” وخروج الشباب المغربي في مظاهرات 20 فبراير، ومشاركتهم في لقاءات لدعم الموقف المغربي في قضية الصحراء وأيضا في مظاهرات منددة بالرسوم المسيئة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. 

لكنْ رغم ذلك، يؤكد قادةالطريقة أن البودشيشية لن تتحول أبدا إلى كيان سياسيّ، إذ ميدانها هو تربية الأفراد وتزكية النفوس، وللدولة أحزابها السياسية التي تدافع عن مصالحها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *