ارتشف شكري كأسين بشكل سريع ثم ارتخت عضلاته ووضع بدلته جانبا وأخذ يدخن..

كانت الكثير من الغانيات يأتين لتحية شكري.. يبدو أن ودا خاصا كان يجمعهن به..

*طارق جبريل

حضرت برنامجا معادا عن محمد شكري وحيواته في التلفزيون المغربي..

تذكرت الكثير الكثير الذي عايشته عن قرب ونحن نشتغل على “مجنون الورد” اتاحت لي الظروف التعرف عن قرب على هذا الروائي الفذ..

كان شكري صديقا شخصيا لشقيقي طلحة لكن علاقتنا توطدت حين صممت له كتاب زمن الأخطاء،

وتينسي وليامز وبول بولز في طنجة وعدة كتب أخرى، كان رجلا محبا للحياة بشكل غريب..

كان يتندر علي ضاحكا: قيل لي أنك لا تشرب الا الكوكا كولا والأتاي..

سي محمد هي النفسي وما تشتهي

يا ولدي من لا يشرب النبيذ لا يستطعم الحياة بلونها الأحمر..

سي شكري الاستمتاع بالحياة له عدة اوجه.. وانا اجد نفسي في عوالم الكوكا والأتاي..

–  هههههههه أية عوالم هاته، اية حياة هذه التي لا يُمتص فيها النبيذ وتستمتع معه بحكاوي الغانيات وعاهرات الليل..

صدقني يا ابني في الحانات الكثير من الأنسنة.. الحياة هنا كما هي وبآلامها الحقيقة وصخبها.. كل الذين تراهم هنا لهم حكاوي إنسانية حقيقة وليست مزيفة كالمقاهي..

لفت نظري خلال تعاملنا من خلال كتبه والعلاقة الجيدة التي نشأت بيننا.. لاحظت أن له عطفا كبيرا على المشردين وبائعات الجنس..

كان كلما صادفنا مشردا أو طفل متخلى عنه يتسكع في شوارع الرباط الخلفية يقف معه ويسأله عن أحواله ومن أين أتى ثم يمنحه مبلغا من المال..

هؤلاء الأطفال يعيشون حياة حقيقة خلف ظلام الكون غير المرئي.. هكذا كان يقول كأنما يتحدث عن نفسه

في احد الليالي انتهينا من تصميم احد كتبه وكان علينا الالتقاء بطلحة في احد المقاصف في وسط الرباط..

كان طلحة قد بدأ معه مشروع كتاب عن حياته المتقلبة تلك..

عن نشأته وطفولته وبدايات مراهقته، عن كل لحظات الألم والحرمان التي عاشها..

دلفنا الى المقصف في انتظار طلحة.. طلب هو قنينة نبيذ وظللت أنا وفيا للكوكا (الفرح المعبأ في قناني)، هكذا كنت اسميها..

اخذ كأسه وضربها على كأس الكوكا الذي أمامي وقال:

في صحة الصوفي القادم من بلاد النيل، في صحة السوداني الاسمر الجميل..

كان مقصفا كأنه قطعة من الأندلس يديره يهودي له صوت شجي حين يغني (الأندلسي)..

يصر هذا اليهودي على الطبخ بنفسه لزائريه الكثر..

ارتشف شكري كأسين بشكل سريع ثم ارتخت عضلاته ووضع بدلته جانبا وأخذ يدخن..

كانت الكثير من الغانيات يأتين لتحية شكري.. يبدو أن ودا خاصا كان يجمعهن به..

جاءت إحداهن وجلست معنا وبدأت تدخن بشراهة.. لم تقل شئا..

سألها شكري: كي دايرين أخواتاتك

الحمد لله بييي خيير راهم تيقروا مزيان

عندك تخليهم يخرجوا للزنقة، راه غادي نقودها معاك

آآآسي شكري علاش أنا هنا

اخرج شكري مبلغا من المال مده بها وقال:

غدا حولي ليهم هادي الفلوس وربي غادي يسهلها..

قامت وقبلت شكري في جبينه وخرجت من المقصف..

أطلق شكري آهة كبيرة: هادي البنت راها عجيبة..

كتبيع بزولتها (نهدها) باش خواتاتها يقروا..

خيم صمت بيننا.. وسرحت عيني انا في المكان.. لكل غانية

هنا قصة مؤلمة.. خلف هذا الكم الهائل من البسمات الكثير من الألم..هذه هي عوالم «الخبز الحافي» و«زمن الأخطاء» وحياة شكري ودنياه..

اين سرحت آآآسي شكري..

رجعت إلى سنين عجاف يا ابني.. سنين كان الألم فيها مثل سيل جارف

سنين (الخبز الحافي) و(زمن الأخطاء)؟

لقد عشت ضنكا لا مثيل له، انت تستغرب أنني أعطف كثيرا على العاهرات وبنات الليل..

كنت أحيانا يا ولدي ثلاثة أيام لا أتذوق الطعام حتى في المزابل..

كنت آتي الى أحد البارات المنتشرة في طنجة علني احصل على فتات احد السكارى..

هل تدري من كان يعطف علي؟؟ هؤلاء الغانيات، كن أحن علي حتى من أبي..

كنت أود تعلم القراءة والكتابة، كنت اذهب الى إحدي المدارس واقف خلف احد النوافذ

يوما بعد يوم كنت اكتشف انني قادر على التعلم، هل تعلم اين كنت أراجع دروسي؟؟

أين؟

كنت أراجع دروسي في البارات ههههههههههههه، كانت تساعدني احدى الغانيات..

عجيب!

كانت حياة متوترة يا ابني، للشارع قوانين أخرى لا علاقة لها بالبشر..

اغتصبت طفولتنا مرات ومرات، كنا نلتحف السماء ونقتات على القمامة..

كان يحكي لي عن طفولته.. لمع في عينيه شئ من الألم.. كأنما نكأت جرحا عميقا في داخله..

لم أود أن أفتح جراحه لكن يبدو أنه كان يحكي ليرتاح..

قال إن الكثير من نسوا وجوده بحثوا عنه بعد أن صار غنيا من كتاباته..

طردهم من بيته يوما لأنهم حسب زعمه يودون أن يرثوه وهو عايش..

كانت له خادمة تدعى فتيحة كان يغدق عليها المال وعلى أسرتها..

فتيحة هادي آآآسي طارق كتخاف علي بحال خوها.. هاد الشي علاش كنتهلا فيها..

قال كلاما كثيرا عن قوانين التشرد، تحدث عن جنس الشوارع بشئ من الألم..

كان يحكي كأنما يتخلص من كابوس يجثم علي صدره..

حضر طلحة وقطع عليه حديثه: با شكري تعطلت عليك ياك..

ابدا كنت احكي لطارق عن أيام التشرد في طنجة..

اهاااا اذن خلينا نواصلوا في هاداك الشي اللي بدينا امبارح

فين وقفنا

حكيت عن الاغتصاب من المتشردين الاكبر سنا..

أشعل سجارة ثم أخذ منها نفسا عميقا وتنهد..

كنت تعبا جدا لذا قررت الانسحاب.. استأذنت شكري في الانصراف..

خرجت فتبعني شكري: سي طارق كنت كنظن راك غادي تتعشى معايا..

سي شكري راني مرهق جدا من الصباح وانا خدام..

عاود ما بغيتش نقطع حديثك انت وطلحة..

اخرج من يده مبلغا ووضعه في جيب القميص ووضع يده الأخرى على فمي ثم رفع حاجبيه وفي وجهه إصرار ورجاء:

قال لي طلحة انك أحمق.. وقسما بالله ترد هادي الفلوس ما غاديش نهدر معاك مرة اخرى

صير تتعشى واشرب الكوكا وغدا نتلاقو في مكتب طلحة..

الله يهديك با شكري

ما تقول والو.. صير الله يهنيك

تركته وعدت الى عالمي.. نسمة باردة من الأطلسي لفحت وجهي..

غصت في كلمات وألم شكري حتى وصلت الى شقتي في حي حسان بالرباط..

تحللت من ملابسي واغمضت عيني في نوم عمييييييييييق..

تذكرت كلماته تلك حين شيعه القوم إلى مثواه الأخير في طنجة..

رحل الرجل.. لكنه ترك لنا دليلا قاسيا عن قُبحنا..

*كاتب صحفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *