يحكي البطل العالمي والأولمبي المعتزل جواد غريب في هذا الحوار الذي سبق أن أجاره معه الزميل يونس الخراشي، قصته مع الماراثون وتتويجه بالذهب، والاستقبال الملكي الذي حظي به في قصر تطوان.

 في فقرة حوارات خالدة تعيد جريدة le12.ma، نشر هذا الحوار تعميما لفائدة ومساهمة في نشر الثقافة الرياضية، وتعريف الأجيال المعاقبة على مسيرة بطل من ذهب.

 إليكم الحوار كاملا:

قليلون من يعرفون بأن لجواد غريب علاقة خاصة جدا بالماراثون. فإن كنت فزت بذهبية هذا السباق في بطولة العالم لسنة 2003 بباريس، فلأنك بدأت علاقتك به، ذات يوم، بمشاهدة ماراثون مراكش، ثم رحت تجرب حظك معه في غابات مدينتك خنيفرة. هل لك أن تحكي لنا القصة جواد؟

ما قلته صحيح. حدث ذلك سنة 1993 على ما أعتقد. كنت أشاهد واحدة من دورات ماراثون مدينة مراكش، فإذا بي أقول لنفسي، وبحماس: “ما الذي يمنعني من أن أركض هذا السباق وأربحه؟”. وفي اليوم الموالي، بدأت التداريب.

لم أكن حينها منتميا إلى أي ناد، ولا كانت لدي أي معرفة بطرق التدريب وآلياته. فالذي حركني هو حماسي، ورغبتي، ليس إلا. وهكذا لبست حذائي الرياضي، و”شورط”، وتوكلت على الله، لأقطع المسافة الرابطة بين خنيفرة و”الهري”، وتبلغ حوالي عشرين كيلومترا، بالجري.

ركضت مسافة عشرين كيلموترا في الصباح، ثم تناولت الغذاء، وارتحت قليلا، لأحاول قطعها مجددا بعد الظهر. غير أنني توقفت بعد أن قطعت حوالي كيلومترين. فلم أستطع إتمام المسافة. وكان ذلك طبيعيا، بحكم أني لم أكن أملك المعرفة والخبرة اللتين تخصان رياضة الجري.

ترى ما هي الخلاصة التي خرجت بها من أول تجربة لك مع رياضة الجري، وبالذات مع سباق الماراثون؟

حين قطعت الكيلومترين، وعدت أدراجي إلى البيت، دون أن أستطيع إتمام المسافة المرغوبة، تعين علي قضاء أسبوع كامل بلا حركة بفعل الألم العضلي. واشتريت محلولا رحت أدلك به رجلي، إلى أن تحسنت حالتي.

أما أول خلاصة خرجت بها من تلك التجربة فهي أنني مجرد مبتدئ، لا يمكنني، البتة، جري مسافة عشرين كيلومترا في الصباح، وأخرى في العشي. وبالنتيجة، اضطررت أن أشتغل بمعدل حصة واحدة كل يوم؛ إما صباحا أو عشية.

وفهمت، مما حدث، بأن إجراء حصص تدريبية في الصباح وبعد الظهر، أو المساء، متاحة لمن لديهم خبرات طويلة في المجال، ولديهم طرق خاصة في التداريب. فحتى وإن كنت ألعب، حينها، بعض المباريات في الكرة، إلا أن ذلك التحدي لم يكن ممكنا بتلك الطريقة المفعمة بالحماس.

وهكذا، رحت أجري تلك المسافة المقررة صباح كل يوم، لمدة شهر تقريبا. كنت أفعل ذلك بمفردي، ودون أي تفكير في التوقيت. فكل ما كان يهمني، في تلك الأثناء، هو أن أقطع المسافة كاملة، بحيث أركض لعشرة كيلومترات ذهابا وأخرى في الإياب، دون أي توقف.

فمتى حدث التغيير، لتبدأ الصلة بالرياضة المنظمة؟

حدث ذلك لأول مرة حين التقيت بأحد أبناء الحي حيث كنت أسكن في مدينة خنيفرة، ليطلب مرافقتي إلى التدريب. لم يكن عداء، بل كان همه أن ينقص وزنه. ثم إذا به يقول لي، وقد عدنا من الحصة:”أنت مزيان، علاش ما تدخلش لشي نادي؟ غادي تولي أحسن بكثير”.

وبالفعل، فقد رافقته إلى منزل شاب اسمه بوعبيد، كان عداء ومسؤولا، في الوقت نفسه، عن تدريب المنتمين إلى نادي خنيفرة لألعاب القوى. وقال لي هذا الأخير، إذ علم برغبتي في الانضمام إلى النادي، إن الأمر بسيط، يحتاج نسخة من البطاقة الوطنية، وصورة.

ومباشرة بعد الانضمام إلى النادي، تكفل بي ذلك الشاب الذي يعيش حاليا خارج المغرب. كان يوضح لي الطرق الصحيحة في التداريب، ويقدم لي النصح، ويقوم لي أخطائي.

وكانت تلك بدايتك مع ألعاب القوى؟

تماما. ولم يمر على وجودي في النادي سوى فترة قصيرة جدا حتى صرت الثاني بعد بوعبيد. كان هو الوحيد الذي يتوفق علي في الحصص التدريبية. دائما يكون رقم واحد، وأكون خلفه. أما الشباب الآخرون، الذي كانوا يمارسون منذ سنوات، فتمكنت من تجاوزهم جميعا.

قلت إن مشاهدتك لماراثون مراكش، في التلفزيون، حركتك، ثم رحت تتدرب. ترى ما الذي كنت تطمح إليه؟

كان هدفي كسب الماراثون. وقلت لنفسي:”أنا نقدر نوض نتريني، ونربحهم كاملين. مالهم، شكون غيكونوا؟”. كنت أملك ثقة كبيرة في نفسي. ومن غريب الصدف أنه لم يكتب لي أن أشارك في ماراون مدينة مراكش، مع أن الفضل يعود إليه في كوني صرت عداء.

وقضيت، بالفعل، سنوات بين الحلم وأول مشاركة في الماراثون. ترى كيف كانت المرحلة بين تلك البداية في غابات خنيفرة والمشاركة الأولى في سباق 42 كلم و195 مترا؟

أود أن أشير أولا إلى أنني نسيت شيئا اسمه الماراثون حين دخلت النادي. ذلك أنني رحت أشارك مع العدائين في بطولات العدو الريفي، والسباقات على الطريق، فيما اندثر الماراثون من ذهني تماما.

ما السبب الذي جعلك تنسى الماراثون حينها؟

اكتشفت، من خلال التداريب اليومية، والمنافسات، بأن الأمر ليس سهلا كما تصورت في بداية الأمر. وعرفت بأن كل فوز، بأي سباق، يلزمه تضحية كبيرة جدا. فالمسألة تحتاج تداريب مكثفة، وسنين عددا، كي تصل إلى مستوى معين من اللياقة والخبرة.

“ماشي يالله غدا غنمشي نتريني، وشهر شهرين وصافي وغنربح”. فقد وجدت بأن العدائين الذين كانوا يشاركون في المنافسات يملكون سنوات من التداريب والخبرات الطويلة، ولم يصلوا إلى المستويات التي بغلوها بسهولة.

طيب، كيف كانت بدايتك الثانية، وقد صرت تملك رؤية أكثر وضوحا؟

بدأت العدو، عمليا، في سنة 1994. وبعد ثلاث سنوات من العمل الشاق صرت منافسا معتبرا للعدائين من ذوي الخبرة. ويعني ذلك أنني صرت في ظرف وجيز ضمن نخبة العدائين المتفوقين في المغرب. فرحت أشارك في سباقات نصف الماراثون وسباقات الطريق. “وليت كندير بلاصتي، كما كنقولو”.

هل وجدت، إذن، أن الثقة التي حدثتك بها نفسك، في مستهل مسيرتك، كانت في محلها؟

لا أستطيع أن أقول نعم، مثلما لا أملك أن أقول لا. ففي تلك الفترة، وحين كنت أشارك في سباقات العدو الريفي وغيرها، وكنت أنهيها في المراكز بين العاشر والحادي عشر أو أكثر أو أقل، عرفت أن الأمر ليس بسيطا، وأن من سبقوني يستحقون أن يتقدموا علي في الترتيب.

ومع ذلك، فالنتائج الأولى منحتني ثقة أكثر في النفس. وأذكر أنني شاركت، باسم نادي خنيفرة، في سباق للعدو الريفي، حينها، ودخلت سابعا في النهاية، وهو ما مكن الفريق بأن ينال الربتة الثالثة على الصعيد الوطني في فئة الفرق.

ثم شاركت في عدد كبير للغاية من السباقات على الطريق. لم أترك سباقا إلا وكنت ضمن المتنافسين على رتبته الأولى، سيما على مستوى الدار البيضاء. وصرت، حينها، معروفا بصاحب المركز الأول أو الثاني، بمعية سعيدو كمال.

وهكذا، شرعت في كسب التجربة. فمن سباق مسافته 10 كيلومترات إلى آخر مسافته 15 كيلومترا، إلى نصف ماراثون، أصبحت أعرف الخبايا وأتفطن إلى التفاصيل الصغيرة التي تصنع عداء جيدا ينافس على الصعود إلى منصات التتويج.

ثم جاء الوقت الذي ستستعيد علاقتك بسباق العمر؛ الماراثون. حدث ذلك سنة 2002، أليس كذلك؟

نعم، وكان ذلك أثناء مشاركتي في ماراثون روتردام الهولندي. ويعود الفضل في هذا التحول إلى مولاي إبراهيم بوطيب، الذي لاحظ تحسن مستواي عبر مشاركاتي العديدة في سباقات نصف الماراثون والسباقات على الطريق.

قال لي حينها، وكنا في سنة 2001، إن علي المشاركة في سباق عشرة آلاف متر ضمن بطولة العالم لألعاب القوى، التي كان مزمعا إقامتها في إيدمونتون بكندا. فخضعت لاختبار في الرباط، تحت إشراف المدير التقني الوطني الأسبق لحسن صمصم عقا. وهو الاختبار الذي أدركت فيه رقمي الوطني (27 دقيقة و45 ثانية)، وحصلت على الحد الأدنى “المنيما”، المؤهل إلى بطولة العالم.

وطُلب مني، في تلك الأثناء، أن أشارك في سباق للمسافة نفسها خارج المغرب، تأكيدا للنتيجة. وبالفعل، حصلت على توقيت جيد، وكنت خلف العداء عبد الرحيم الكومري رحمة الله عليه؛ إذ حل على 27 دقيقة و25 ثانية، فيما حصلت أنا على توقيت 27 دقيقة و27 أو 28 ثانية.

وبعد العودة من إيدمونتون، حيث سأحصل على المركز الحادي عشر في سباق 10 آلاف متر، شاركت في بطولة العالم للعدو الريفي، حيث دخلت تاسعا، وحصلنا على المركز الثالث في فئة الفرق، ثم حضرت ألعاب البحر الأبيض المتوسط، التي جرت برادس التونسية، حيث تمكنت من الفوز بذهبية سباق عشرة آلاف متر.

وواصلت المشاركات في سباقات المضمار، قبل أن أحضر بطولة العالم لنصف الماراثون، التي نظمت ببروكسيل في السنة ذاتها، حيث كنت بمدينة ليل، ومنها انتقلت إلى العاصمة البلجيكية، لأحصل على المركز الثاني، وأتوج وصيفا لبطل العالم.

جاءت مشاركتك في بطولة العالم لنصف الماراثون لتؤكد أنك بلغت مستوى عاليا. أليس كذلك؟

نعم، فقد تمكنت من إبراز قدراتي، وتوجت وصيفا للبطل. وفي الواقع، كنت قريبا من الفوز باللقب. أنهيت السباق في زمن قدره ساعة وصفر دقيقة و42 ثانية، ولم يفرق بيني وبين المركز الأول، الذي فاز به الكيني بول كوجي، سوى أربع ثوان لا غير. والسبب في ذلك أنني ضللت الطريق إلى خط النهاية في اللحظات الأخيرة، ولم يكتب لي التتويج بالبطولة.

ثم جاءت ساعة الماراثون. كيف حدث ذلك بالضبط؟

حين عدت إلى المغرب، والتقيت بمدربي مولاي إبراهيم بوطيب، سألني:”علاش ما ديرش الماراثون؟”. قال لي:”طلع حيد من هدشي، ودير الماراثون”.

كانت تلك أول مرة ستسمع بالماراثون في مسارك الرياضي الاحترافي. أليس كذلك؟

نعم. ثم حدثت واقعة ستجرني إلى الماراثون جرا. ذلك أنني كنت مقبلا، في محطة من المحطات، على المشاركة في سباق 5 آلاف متر، ضمن ملتقى من الملتقيات الدولية. وحين رحت أستعد له، فرضت على نفسي تداريب قاسية جدا.

بمعنى؟

أنت تعرف أن أي عداء يريد الوصول إلى مواقيت جيدة في التداريب يتعين عليه الاستعانة بأرانب للتدريب. غير أنني أجريت حصة تدريبية، نصحني بها مولاي إبراهيم بوطيب، بمفردي، ومع ذلك بلغت توقيتا ممتازا.

كانت حصة صعبة للغاية، وأدركت فيها مواقيت للعبور من مسافة إلى أخرى لا تضاهى. وأؤكد لك أنها كانت مواقيت تشبه تلك التي كان يعبر فيها بيكيلي أثناء المنافسات، ويشهد عليها مولاي إبراهيم بوطيب. فمثلا، أنهيت مسافة 3 آلاف متر في زمن 7 دقائق و47 ثانية، بعد أن قطعت الألف متر الأولى في حوالي دقيقتين و23 ثانية. ثم أنهيت مسافة ألفي متر، التي طلب مني المدرب جريها، في زمن 5 دقائق و15 ثانية. ثم طلب مني، بعد فترة من الراحة، أن أركض كيلومترا، بحيث جريته في زمن قدره دقيقتين و31 ثانية.

ولو أنك قلت لأي كان؛ سواء أكان مدربا أو عداء أو أي شخص مهتم بألعاب القوى إن غريب عبر من مسافة إلى مسافة في زمن قدره كذا وكذا، وبأنه كان يتمرن منفردا، لما صدق ذلك. فالأمر يحتاج بالفعل إلى فريق عمل، بأرانب تدريب محترفين، قد يصل عددهم إلى ستة.

ثم ماذا حدث مع سباق 5 آلاف متر الذي كنت تستعد للمشاركة فيه؟

كان مفترضا أن أنهي ذلك السباق، عطفا على تلك التداريب القاسية، في حدود 12 دقيقة و56 أو 57 ثانية. فمواقيت العبور من مسافة إلى أخرى كانت واضحة، وحسابيا كانت تعطي زمنا يقل عن 13 دقيقة في سباق 5 آلاف متر.

ما حدث، حينها، أنني أنهيت السباق في توقيت لا علاقة له بكل التداريب التي أجريتها، بزمن قدره 13 دقيقة و22 ثانية و94 جزءا من المائة (ستوكهولم بتاريخ 16 يوليوز 2002). فقررت، مباشرة بعدها، أن أنهي علاقتي بالمضمار، وأن أنتقل، فورا، إلى سباقات الطريق، وعلى الخصوص إلى سباق الماراثون.

“درت كروا على البيست. صافي، ما بقاتش”. وألغيت كل السباقات التي كانت مقررة في برنامجي، لأنتقل إلى السباق الطويل. كان ذلك آخر عهدي بالمضمار.

فكيف بدأت المرحلة الجديدة؛ مرحلة الماراثون؟

بدأت بالاستعداد جيدا للمشاركة في ماراثون روتردام الهولندي، الذي كان مقررا بتاريخ 13 أبريل من سنة 2003. ثم إذا بمولاي إبراهيم بوطيب ينصحني بالمشاركة في بطولة المغرب للعدو الريفي، على اعتبار أنها ستكون محطة تدريبية ممتازة قبل الدخول إلى غمار الماراثون الهولندي.

جرت البطولة المغربية، حينها، بتاريخ 02 مارس، بمدينة أبي الجعد. ورغم أن المتدرب على سباق الماراثون يفتقد، بفعل الاهتمام بالحجم (الإيقاع الطويل)، إلى السرعة، “كتهرب ليه الفيتاس”، فإنني أنجزت سباقا خياليا، وفزت بالمركز الأول.

ثم توجهت، برفقة مولاي إبراهيم بوطيب، إلى روتردام، للمشاركة في السباق المستهدف لتلك المحطة، وهو الماراثون. ولم يكن في نيتي أن أنافس أولئك العدائين الذين يقطعون نصف الماراثون في زمن ساعة ودقيقة، مثلا. بل كنت أستهدف إنهاء السباق، ليس إلا، على اعتبار أنني مبتدئ، ولا يجد ربي العمل على الفوز.

كانت الخطة واضحة في ذهني؛ يتعين علي إتمام مسافة 42 كليومترا و195 مترا، كي أعرف مدى تحملي، وأختبر قدراتي، وأستكشف هذا السباق الذي لطالما حلمت به، وحركني كي أصبح عداء، وأغير حياتي كلها.

ومع ذلك، فقد أنهيت ماراثون روتردام بين الأوائل. كيف كان شعورك وأنت تنهيه، وبزمن جيد، وضمن الأوائل؟

أشير أولا إلى أنني طبقت الخطة كما كانت مرسومة في ذهني، بحيث لم أمض في أثر الأوائل، بل ركضت جنبا إلى جنب مع الكوكبة الثانية. وكنت أعي جيدا بأن كوكبتي تضم العدائين الذين يعبرون نصف الماراثون في زمن ساعة وثلاث دقائق أو أربع.

ومع مرور الوقت، وقد شعرت بأنه في الإمكان التقدم، إذا بي أكتشف أني ألتحق بالعدائين الذين كانوا ضمن الكوكبة الأولى؛ واحدا واحدا. وفي الأخير، وجدت أنني على وشك إنهاء السباق في المركز الرابع، لولا أن عدائين كينيين لحقا بي عند خط النهاية، لأصبح سادسا في الترتيب العام، بزمن قدره ساعين و9 دقائق و15 ثانية (الزمن الذي أنهى به الكينيان السباق هو ساعتان و19 دقيقة و14 ثانية).

ومع ذلك، فقد شعرت بسرور كبير. فمن ناحية أنهيت السباق، وبلغت هدفي، ومن ناحية أخرى أدركت زمنا لا يدركه إلا من يشاركون في عدد مهم من الماراثونات، بحيث أن زمن ساعتين و9 دقائق لم يكن، في تلك الآونة، متاحا لأي كان.

ثم لاحت في الأفق بطولة العالم التي كانت مقررة في باريس الفرنسية، شهر غشت. ألم يحدث، في الفترة الفاصلة بين مارس وغشت، أن اقترح عليك أحدهم تغيير السباق؟

كلا لم يكن ذلك واردا عندي بالمرة. فقد كنت قررت الانتقال من سباقات المضمار إلى سباقات المسافات الطويلة على الطريق؛ من نصف ماراثون وماراثون، ولم يعد ممكنا، حينها، أن أغير وجهتي. ثم إن المحطات الإعدادية كانت موجهة لبطولة العالم بباريس، من بطولة العدو الريفي إلى ماراثون روتردام، إلى المشاركة في نصف ماراثون أيضا.

قبل الحديث عن نصف الماراثون بجوهانسبورغ، ترى كيف كانت المحطة التدريبية إعدادا لبطولة العالم؟

انطلقت إلى إيفران، حيث كنت سأبدأ معسكري الإعدادي. وهناك نوعت الحصص، كما هي العادة، بين الطويل والقصير، مع الاشتغال بالسلسلات الموحدة والسلسلات مختلفة الإيقاع (Serie et Fartleks). إذ كنت أركض كل يوم ما يقارب 31 كيلومترا، مقسمة بين 16 كيلومترا في الصباح و16 أو 17 أخرى في العشي.

بمعدل ماراثون في اليوم. أليس كذلك؟

نعم، بحيث أنطلق يوم الاثنين، مثلا، إلى “البلاطو” (منطقة ممهدة في غابة إيفران، حيث يجري العداؤون حصصهم التدريبية) حيث أجري حصة “الفوتينغ”، عبارة عن 17 كيلومترا. وحين أعود إلى مقر الإقامة وأستريح، أنطلق مجددا لأجري حصة تمتد على مسافة 16 كيلومتر، عبارة عن فوتينغ آخر.

وقد أشتغل بشكل مغاير عندما يتعين ذلك، بحيث أعمل يوم الثلاثاء، مثلا، على السلسلات الخاصة بالسرعة، إذ أركض ما يناهز 12 كيلومتر موزعة على مسافة كيلومتر إلى كيلومترين في كل مرة على حدة.

وهكذا، بحيث أنهي الأسبوع التديربي وقد ركضت ما يناهز 180 حتى 200 كيلومتر. وهو ما قد يبدو بالكلمات بسيطا ومتاحا، مع أن الأمر ليس كذلك. فمن جهة يحتاج العداء إلى العزيمة، وهو ما يتأتى بالاشتغال على الجانب المعنوي وتحفيز الذات، ومن ناحية أخرى يحتاج إلى القدرة على التحمل، وهو ما يلزمه المواظبة في التداريب.

إن الذهاب إلى حصة تدريبية، يعني أنك ستقطع 30 إلى 31 كليومتر، وبالتالي فالأمر ليس نزهة أو جلسة ممتعة في المقهى، بل لحظات من القسوة على الذات، تنتهي بعودتك منهكا، “كتدخل لدارك كاو”.

قطعة من عذاب.

تماما. ومع ذلك، فقد كنت أختار لنفسي، مرارا، أن أقطع مسافة 28 إلى 30 كيلومتر في الحصة الواحدة، بحيث أجري حصة للإحماء، ثم أحزم رباط الحذاء، وأنطلق نحو “راس الما” في مدينة إيفران، الذي أقطع دورته، الممتدة على مسافة 17 كيلومتر، مرتين دون أي توقف. وفي أحيان أخرى كنت أركض حول “ضاية عوا”، على مسافة تمتد سبع كيلومترات، مكررة أربع مرات.

ولم يكن الأمر يقف عند إنهاء المسافة، بل إنهاؤها وفق ترتيب معين، وحسب مواقيت محددة في مسافات بعينها، حتى أشعر بالارتياح، وقد تيقنت بأنني أمضي في الطريق الصحيح إلى الهدف المرغوب

الخلاصة أن تداريب الماراثون في حد ذاتها تحد كبير للغاية. أليس كذلك؟

صحيح. ويمكن أن تسأل العدائين الذين كنت أرافقهم أحيانا في الحصص التدريبية بإيفران، أو يرافقونني. وسيحكون لك عن حجم المعاناة التي كنا نعانيها كي نصل إلى نتائج جيدة، وربما يحكون لك أيضا عن الجدية التي كنا نشتغل بها.

لم يكن يدور في أذهاننا شيء اسمه “بشوية”، أو سأقلص اليوم من المسافة، أو من الحصة، أو أترك حصة اليوم إلى الغد. أبدا، لم يكن ذلك موجودا في قاموسنا. فإما أنك تملك القدرة كي تمضي إلى النهاية، أو اذهب إلى البيت “وارتح مع نفسك”.

شخصيا كنت أضع برنامج عمل واضح، وأحرص على أن أطبقه بالفاصلة والنقطة. لا أعطي لنفسي أي فرصة كي أخفف منه، مهما كانت الظروف التي تدعوني إلى التكاسل. فالنتيجة ليست متاحة للجميع، بل فقط للذين يجتهدون ويصبرون ويثابرون.

وأذكر، هنا، أنني كنت أجري حصصا تدريبية في شهر رمضان، بمدينة خنيفرة، وسط الأحراش، حيث أعبر من حواشي نهر أم الربيع؛ من مواقع صعبة للغاية. لم أكن ألاقي، حينها، سوى القنافذ، لا غير. أركض مدارا يمتد على مسافة 17 كيلومترا.

وحين أقول لك إن الأمر كان يحدث في شهر رمضان، فأعني به أنه كان يحدث ليلا. ولك أن تتخيل، الآن، صورة المكان الموحش، والظلام الذي يجلله ليلا، بينما أركض، أنا وأحد الزملاء، على أثر ضوء خفيف ينبعث من مصابيح صغيرة معلقة في مقدمة الرأس، نكاد لا ندري أين نضع القدم بعد القدم.

ولك أن تتخيل الجري ليلا وسط الأحراش؛ حيث تجبرك الطبيعة مرة على الركض هبوطا، وأخرى صعودا، حيث الصخور الجبلة والأعشاب الغابوية هي التي تتحكم فيك، وتفرض عليك سلطتها، والحيز الذي يمكن لك أن تطأه بلا مشاكل.

كنت أجري حصتي التديربية الليلية لأتمم عملي الذي أنجزته في حصتي ما قبل الإفطار. لم يكن هناك مجال للراحة، ولا للتكاسل، ولا لمجاملة الذات.

وكما قلنا من قبل، فقد كان لا بد أن تشارك في نصف ماراثون. وسيتأتى لك ذلك بالجري في جوهانسبورغ. ما القصة؟

كنت أواصل التداريب بين الرباط وإيفران. وأذكر أنني كنت بإيفران، إذ اتصل بي مدير أعمالي ليتحدث لي عن فرصتين للمشاركة في نصف ماراثون يساعدني على قياس جاهزيتي لدخول منافسات بطولة العالم المقررة، في تلك الأثناء، في العاصمة الفرنسية باريس، فضلا عن مساعدتي في كسب معيشي اليومي.

كان الأمر يتعلق باختيارين، كما سبق أن قلت؛ أحدهما يتعلق بسباق بمدينة مارسيليا الفرنسية، والثاني يتعلق بسباق سينظم في جوهانسبورغ بجنوب إفريقيا. ولم يكن الاختلاف بينهما يهم المسافة طبعا، بل كان في الجانب المادي، إذ أن المنحة المخصصة للسباق الفرنسي لم تكن مغرية؛ في حدود ثلاث ملايين سنتيم، فيما كانت المنحة المعتمدة لسباق جوهانسبورغ تبلغ حوالي عشرين مليون سنتيم مغربي.

اخترت البعيد إذن؟

نعم. كان المبلغ مغريا، فضلا عن أن كل المصاريف التي تخص السفر والإقامة مؤداة من قبل المنظمين. ورغم أن المدينة تقع على علو حوالي 1600 إلى 1700 متر عن سطح البحر، إلا أنني قررت المشاركة في سباقها.

وسأكتشف لاحقا بأن المسار الخاص بسباق 21 كيلومتر صعب للغاية، إذ لم يكن عبارة عن طريق مستوية، بل تفاجئك في كل مرة بعقبة ممتدة، ثم بمنحدر طويل، وهكذا. وكل ذلك يجعل السباق مرهقا، ويصعب على أي عداء إتمامه ما لم يكن تام الجاهزية.

فكيف دبرت أمرك مع تفاصيل السباق الذي ستدخل به التاريخ أيضا؟

انطلقت في البداية نحو باريس، ومنها قطعت كل القارة الإفريقية نحو جوهانسبورغ. وحين وصولي إليها نصحني أحدهم بألا أحاول إجراء التداريب بعيدا عن مقر الإقامة، بالنظر إلى الظروف الأمنية الخطيرة. ومن تم قررت أن أجري حصصي في الفندق نفسه، بحيث عمدت إلى مرآبه مكتفيا بمساحته الواسعة. وفي يوم من أيامي الأربعة هناك، أخذني المنظمون إلى إحدى الغابات حيث تدربت في مساحة أوسع.

في يوم السباق، الذي أعطى انطلاقته نيلسون مانديلا، وكنت أجهل منافسي، إذا بي أقع في الخطأ، وقد ظننت بأن من سارعوا إلى المقدمة، عقب حوالي 400 متر، من العدائين المحترفين. لكنني فوجئت بهم وقد بلغنا طريقا صاعدا بأنهم تعبوا، ولاحت على حالهم علامات الإعياء. واكتشفت أنهم ليسوا محترفين، بل مجرد هواة خدعني لباسهم الجيد.

كنت حينها قد تركت خلفي كبار العدائين، وضمنهم الجنوب إفريقي راملا. ولم أجد أمامي من مفر سوى قيادة السباق، بحيث تطلعت، في وقت من الأوقات، إلى عدادي لأكتشف أنني قطعت 12 دقيقة، وأنني أسير منفردا، فيما كوكبة المحترفين تمضي خلفي بحوالي 100 إلى 150 مترا.

وهناك رحت أتساءل بيني وبين نفسي، قائلا:”دابا واش نتسناهم؟”، وأجيبني:”إلى تسنيتهم، غاديين يتعاونو علي”. ثم أسألني مجددا:”هل أكمل السباق هكذا منفردا؟”، وأقول لنفسي:”هذا صعب للغاية. ليس هينا بالمرة”. ثم اتخذت القرار الحاسم، وقلت لنفسي:”ما غاديش نتسناهم، غنمشي حتى للنهاية بوحدي”.

يا لها من مغامرة.

كان ذلك صعبا جدا. فقد رحت أقطع الطريق، متقدما الجميع، دون تردد. ولم أشعر بالراحة إلا وقد لاحظت، وأنا أصعد إحدى القناطر، بأن كوكبة العدائين المحترفين صارت متفرقة. حدث ذلك في حدود الدقيقة 41. والخلاصة أنه لم يعد ممكنا، حينها، أن يساعدوا بعضهم على حسابي.

وبينما كنت أقترب من النهاية، حيث لم يبق بيني وبينها سوى حوالي 500 متر، إذا بعداء كيني يلحق بي. وإذا به يحاول أن يتجاوزني. وجاء رد فعلي بسرعة، بحيث لحقت به وتجاوزته في الحين. وإذ لاح خط النهاية على بعد 100 إلى 150 مترا، وهو يزاحمني بأنفاسه، قررت أن أرفع الإيقاع، لأهزمه بالسرعة النهائية.

كان سباقا صعبا جدا، على طريق يعلو سطح البحر كثيرا، وفي أجواء خانقة بفعل نسبة الرطوبة العالية. ومع ذلك، فقد تفوقت على نفسي وعلى المنافس الكيني، وفزت بالسباق. ومن محاسن الصدف أن التوقيت كان جيدا، قدره ساعة ودقيقتان و24 ثانية (20 يوليوز 2003 / الكيني يوسف سانغوكا حل ثانيا بتوقيت ساعة ودقيقتين و28 ثانية).

وفي أعقاب ذلك السباق، اقترب مني الكيني ليقول لي:” you are crazy” (إنك أحمق)، في إشارة إلى أن الطريقة التي دبرت بها السباق تفوق الوصف، ولا يمكن أن يجرؤ عليها سوى عداء قوي للغاية، ومتمكن من نفسه. وقلت له:”نعم أنا أحمق”. وبالفعل “درت ليهم سباق ما فهمو فيه والو”. (يضحك).

وكيف كانت ردود الفعل عقب السباق؟

أذكر أن مدير أعمالي اتصل بمنظمي السباق، فقيل له:”حتى الآن نحن لا نصدق أن هذا العداء قرر قيادة السباق من البداية وحتى خط النهاية، وفاز به”. وبالفعل، فلو كان الأمر يتعلق بقيادة سباق من بدايته إلى نهايته على حساب كوكبة من العدائين المتوسطين، كان هينا. غير أن العدائين الذين كنت أغامر بالتفوق عليهم كانوا مجهولين بالنسبة إلي، وبالتالي فقد كان بإمكانهم أن يلحقوا بي في أي وقت من الأوقات، لأضيع كل شيء هباء.

والحمدلله، فقد وفقني ربي لأفوز بذلك السباق. ثم عدت إلى المغرب، حيث ذهبت إلى مدينة إيفران لأواصل التداريب استعدادا للمشاركة في بطولة العالم بالعاصمة الفرنسية باريس.

ثم جاء الموعد المشهود، لتنافس على اللقب العالمي لسباق الماراثون. كيف كان المشهد وقد انتقلت إلى باريس حيث كان ينتظرك موعدك مع التاريخ؟

حين ذهبت إلى باريس، ضمن أوائل البعثة المغربية، التقيت بمدير أعمالي الذي سيقول لي إن دخولي مع العشرة الأوائل سيكون أمرا جيدا جدا. فلم يكن ينتظر مني الفوز، رغم أنه كان يعرف بمشاركتي في جوهانسبورغ، وبفوزي بنصف الماراثون هناك.

فهل تعرفت على مدار السباق قبل الدخول فيه؟

كلا، لم أتعرف عليه.

ترى كيف قضيتك ليلة السباق حينها؟

ماذا سأقول لك؟ “ديك الليلة.. نعست هانية.. ما ممسوقش”. ولكن وقع شيء عجيب.

ما هو؟

فبينما نمت ليلة السباق الباريسي دون هواجس، غير مبال بالسباق الذي كان ينتظرني في الغد، إذا بي أعيش، في كل السباقات اللاحقة، على وقع القلق. وأذكر هنا أنني لم أنم ليلتي حين كنت على موعد مع ماراثون هيلسينكي، سنة 2005.

ففي تلك الليلة الباريسية كنت متخففا من كل الضغوط. بل قل لم يكن علي أي ضغط نهائيا. ولذلك نمت مرتاحا تماما. فلم يكن لدي أي شيء أخسره في السباق، بعكس ما وقع معي في هيلسينكي، حيث أنني دخلت المنافسة بطلا للعالم، وكنت مطالبا بالمحافظة على لقبي.

وأؤكد لك، هنا، بأنني ركضت ماراثون هيلسينكي، وفزت باللقب، مع أنني لم أنم ليلة السباق. وكم هو صعب جدا أن تركض ماراثونا وأنت لم تنم ليلتك.

هل نفهم بأنك ركضت ماراثون باريس مرتاحا؟

قلت لك من قبل إن مدير أعمالي اعتبر وجودي ضمن العشرة الأوائل، في نهاية الماراثون، إنجازا كبيرا. وقلت لك إنه لم يكن يرشحني بالمرة للفوز. ولكن الذي حدث قبل الدخول في السباق أن عبدالرحيم كومري، رحمه الله (عداء سابق، مثل المغرب دوليا، وبرز أيضا في الماراثون)، قال لمدير أعمالي التالي:”هل تعرف من سيفوز باللقب؟ جواد هو الذي سيفوز به”.

وهل رشحت نفسك حينها؟

كلا، لم يحدث ذلك. كل ما في الأمر أنني كنت واثقا في قدراتي، سيما أنني استعددت للبطولة جيدا، وقمت بما يلزم، فضلا عن أنني فزت بنصف ماراثون جوهانسبورغ، وكنت على أهبة. الشيء الوحيد الذي كان يجعلني لا أرشح نفسي هو التوقيت الذي في حوزتي بالقياس إلى المواقيت التي يتوفر عليها المنافسون.

فبينما كنت أملك توقيت ساعتين و9 دقائق، الذي أدركته في ماراثون روتردام بهولندا، كان غيري ممن سأنافسهم يملك توقيت ساعتين و6 أو 7 دقائق. فأي مقارنة بين صاحب 9 دقائق وصاحب 6 سيكون من باب الظلم، ذلك أن الفارق كبير جدا.

يتضح أنك دخلت السباق بواقعية، بحيث لم تشطح بخيالك بعيدا. أليس كذلك؟

تماما. ولهذا، فحين أعطيت الانطلاقة بقيت ضمن الكوكبة، كي أراقب المنافسين، وأعرف الاتجاه الذي سيتخذه السباق بعد حين. وظللت على ذلك الحال إلى حدود الكيلومتر 27، حيث برزت أمامنا، غير بعيد، عقبة ممتدة بعض الشيء، ويبدو أنها ستكون صعبة على الجميع.

في إحدى لحظات السباق، كان العداء الإسباني خوليو راي يحاول الانسلال، داعيا، بطريقته الخاصة، منافسا جزائريا، هو رشيد زيار، كي يساعده في ذلك، دن أن يستجيب له، كنت أواصل المراقبة، متوجسا من الإسباني، على الخصوص، لأنه كان يظهر جاهزية وقدرة على المضي إلى أبعد الحدود.

وما أن وصلنا إلى الكيلوميتر 27، وبرزت أمامي تلك العقبة، إذ بي أشرب عسلا كنت أحمله معي، وقدرت أن الوقت حان كي أمتحن تلك الكوكبة من العدائين، كي أقف على مقومات كل منهم، وأعرف المتعين فعله لاحقا.

كان الوضع قد بدأ يتضح. فما الذي قررته حينها؟

قررت أن أصعد تلك العقبة كما لو أنني على مقربة من خط الوصول. ركضت بسرعة وقوة. غيرت الإيقاع بطريقة كلية، وبحدة كبيرة. فوجدتني أقطع العقبة كلها دون أن يغامر أحد من المنافسين باللحاق بي. “خلاوني مشيت”.

فما الذي استخلصته في تلك الأثناء؟

كان الاختبار صعبا للغاية. فقد اخترت أصعب ما يمكن، وهو العقبة، كي أمتحنهم. ولو أنني اخترت اختبارهم في طريق ممهدة، ولا تحتاج إلى عناء كبير في قطعها، لكانوا تجرأوا ولحقوا بي. ولم يكن هدفي هو الانسلال عنهم، بقدر ما كنت أرغب في تشتيتهم، كي يسهل علي قيادة السباق والتحكم فيه.

ما حدث بعد ذلك أنني حين نزلت إلى الجانب المنبسط من الطريق، ورحت أواصل الجري، إذا بالعداء الإسباني، راي، يجتهد ليلحق بي. ثم لحق بنا الكيني مايكل روتشي كوجي، الذي كان يملك توقيت ساعتين و6 دقائق، بلغها سنة 2003، وفي ماراثون باريس.

دخلت منعطفا جديدا، وصعبا. كيف تصرفت إذن؟

تبين لي في تلك الأثناء بأننا صرنا بعيدين جدا، نحن الثلاثة، عن بقية المنافسين. وبينما كنت أؤمل أن نساعد بعضنا كي نفوز بالدرجات الثلاث لمنصة التتويج، وكي نتفادى أن يحلق بنا العداؤون الآخرون، فيضيع من كل شيء، إذا بالإسباني والكيني يختبئان خلفي، مستغلين قيادتي، كي يربحا الأنفاس، على أمل الانقضاض على المقدمة في الوقت المناسب.

كنت أركض، وأسأل نفسي:”دابا أشنو غندير مع هاذو؟؟ كنرجي وكنهضر مع راسي.. عمرك شفتي شي واحد كيجري وكيهضر مع راسو؟؟ وبديت نقول، والله مندير ليهم لعبهم، بغاو يركبو فابور”، ولو أنني اخترت السير على منوالهما، فأبطئ الإيقاع، ثم أختبئ خلفهما، لكان جميع من خلفناهم لحقوا بنا، وبدأ الصراع على منصة التتويج من الصفر.

فكرت إذن في المضي قدما. لم يكن أمامك من حل؟

المعروف أن من يقود السباق هو من يعاني أكثر، بحيث يكون أشبه بحصان ومن خلفه أشبه بعربة مجرورة لا تبذل جهدا. غير أنه لم يكن أمامي من خيار في ذلك. وقلت لنفسي إن علي مواصلة القيادة، وليكن ما يكون.

ورحت أكلم نفسي مجددا، وأقول لها:”ولنفترض أنني كنت سأصل خط النهاية ثالثا، فعلى الأقل كنت سأحصل على الميدالية النحاسية. وهل الميدالية النحاسية رخيصة؟ بل هي غالية، خصوصا بالنسبة إلى عداء مثلي مبتدئ”.

لم كن معقولا، وقد قطعنا في تلك الأثناء 28 كيلومترا أن يلحق بنا عداء آخر من الكوكبة. فلحاق عداء واحد فقط كان يعني بالنسبة إلي أن أحد الثلاثة، الذين تعبوا في تحقيق الانسلال على الأرض، سيفقد مكانته، وسيضيع ميداليته.

وما كان عليك سوى أن ترفع الإيقاع؟

لم يكن مسموحا لي بغير ذلك. وحتى حين كنت أصل إلى بعض العقبات البسيطة، كنت أستثمرها بسرعتي والقسوى على نفسي كي أربح بعض الأمتار عمن يوجدون خلفي. وكم كانت النتيجة إيجابية عندما اكتشفت، لاحقا، بأن الكيني روتشي كوجي تخلف عني، ولم يعد بإمكانه أن ينافس على المراكز الأولى. “طلق مني”.

ثم واصلت الجري والإسباني راي يختبئ خلفي، مستفيدا من قيادتي. “ما بغاش يجر لي.. والو”. وحين شعرت، في وقت من الأوقات، بأنه يريد أن ينسل عني، رحت أضحك. “كان كيجري، وأنا كنضحك. جاب لي الضحكة”.

وما السبب في ذلك؟

لم يكن يملك القدرة كي ينسل عني، ومع ذلك راح يحاول. “ما كانش قادر، وبغى يشمتني”. وصدقني، حين أراجع الشريط الخاص بالسباق، بين فينة وأخرى، أكتشف أنني كنت سأقضي عليه لو كررت رفع الإيقاع في واحدة من العقبات التي صادفتنا لاحقا. ذلك أن راي ظهر، لي، في العقبة الأخيرة ضمن السباق بلسان متدلية، وغير قادر على بذل المزيد من الجهد.

ثم سرتما معا حتى بلغتما الملعب.

تماما. ومباشرة قبل الدخول إلى ملعب سان دوني، بالعاصمة الفرنسية باريس، ضاعفت إيقاعي، ليصبح عاجزا تماما عن اللحاق بي. وبينما كنت أظن أن دخولي يعني الفوز، إذا بالحكام يوضحون لي بأنه يتعين علي قطع دورة كاملة، لأعلن فائزا بالميدالية الذهبية. “صافي، كملت 400 متر، ووصلت للنهاية، وربحتهم”.

قلت إنك كنت تضحك حينما حاول الإسباني راي تجاوزك. ما السبب في ذلك؟

لم يكن يملك القدرة كي ينسل عني، ومع ذلك راح يحاول. “ما كانش قادر، وبغى يشمتني”. وصدقني، حين أراجع الشريط الخاص بالسباق، بين فينة وأخرى، أكتشف أنني كنت سأقضي عليه لو كررت رفع الإيقاع في واحدة من العقبات التي صادفتنا لاحقا. ذلك أن راي ظهر، لي، في العقبة الأخيرة ضمن السباق بلسان متدلية، وغير قادر على بذل المزيد من الجهد.

ثم سرتما معا حتى بلغتما الملعب.

تماما. ومباشرة قبل الدخول إلى ملعب سان دوني، بالعاصمة الفرنسية باريس، ضاعفت إيقاعي، ليصبح عاجزا تماما عن اللحاق بي. وبينما كنت أظن أن دخولي يعني الفوز، إذا بالحكام يوضحون لي بأنه يتعين علي قطع دورة كاملة، لأعلن فائزا بالميدالية الذهبية. “صافي، كملت 400 متر، ووصلت للنهاية، وربحتهم”.

حين دخلت إلى الملعب، وركضت 500 متر أخرى، تبين أنك غير مرهق. ما السر في ذلك؟

أذكر أنني حين دخلت الملعب، وتسنى لي الفوز بالسباق، لاحظت بأن العداء الإسباني، راي، الذي نافسني بشراسة على الميدالية الذهبية لبطولة العالم، كان يقذف ما في بطنه، بفعل التعب. وأقسم إنني، ولله الحمد، وبفضل الاستعداد الجيد، كنت كأنني لم أركض مسافة 42 كيومترا. “كنت بحال إلى ما جريتش يا أخي.. ما عييت ما والو.. الحمدلله”.

لوحظ أيضا، حيت أنهيت الماراثون، أنك رحت تبحث عن العلم الوطني، دون أن تعر عليه بسرعة. من الذي أعطاك الراية حينها؟

أظنهم بعض الشباب المغاربة القاطنين بالديار الفرنسية، ممن كانوا يتابعون بطولة العالم حينها. أما عن المسؤولين، فمن المؤسف أن أيا منهم لم يكن حاضرا في تلك الأثناء. وأعتقد أنهم لم يكونوا ينتظرون فوزي بذلك السباق. وفي تقديري أنه حتى وإن كان لديهم شك تجاهي، وإزاء إمكانية فوزي بالسباق، فكان من اللائق أن يكونوا هناك. “راه المسؤولين كيكونو وخا الواحد ميدير والو، وميربحش.. فأنت تعرف أن الألمان والفرنسييين كيدخل ليهم شي واحد العاشر وكيفرحو بيه”.

ما الذي شعرت به حينها؟

لا شيء. لا شيء يسر. فالواقع أنني كنت أحمل ميدالية من قبل، عندما فزت بوصافة بطولة العالم للعدو الريفي التي جرت في دبلن الإيرلندية. ومعنى ذلك أنني كنت مرشحا كي أصعد منصة التتويج في بطولة العالم لألعاب القوى، بدورة باريس. وفي المحصلة، كان على أولئك المسؤولين أن ينتظروني عند خط النهاية، ويعطوني الإحساس بأنني أستحق الفوز.

“ما عليناش.. الحمدلله.. المهم أنني توفقت، ودرت البوديوم”.

ثم عدت من الملعب إلى الفندق على متن الميترو. هل تذكر ذلك؟

تماما. “ما كاين لا مرسيديس بينز.. ولا والو” (يضحك مطولا، ثم يواصل الحكي لواقعة كنت شاهدا عليها، إذ كنت من رافقه في الميترو، إذ نزلنا معا، وقطعنا مسافة لا بأس بها إلى الفندق مشيا).

وكيف كان الاستقبال في الفندق؟

الحمدلله، فقد كان الجميع سعيدا بذلك الإنجاز المغربي الكبير. وشاركت معهم، في تلك الأثناء، لحظات لا تنسى، بحيث شعرت بحجم ما أدركته، وبالسعادة الفعلية.

وحينها رأيتني وأنا أتدرب قاسيا إزاء نفسي، وأواظب على الحصص المبرمجة، مضحيا بأشياء كثيرة. وقلت مع نفسي إنني حتى وإن كنت قد استعددت بقوة، وجئت إلى باريس جاهزا، إلا أنني لم أكن أتوقع الفوز باللقب العالمي؛ بالميدالية الذهبية على الأقل.

كان الطاقم كله سعيدا بالميدالية، وملأت تلك الأجواء كل المكان.

وبطبيعة الحال تلقيت الاتصال الملكي المهنئ بالإنجاز. أليس كذلك؟

تماما. وهو ما كنت أريد الحديث عنه.

تفضل.

كنت أستعد للمضي إلى قاعة الكشف عن المواد المنشطة المحظورة، وإذا بي أتلقى اتصالا من جلالة الملك محمد السادس نصره الله، ليهنئني على الفوز بالميدالية الذهبية، ويسألني عن وقت العودة إلى المغرب.

شعرت حينها بفخر لا يضاهى. فأن يتصل بك جلالة الملك، ذلك فضل كبير من الله. لا يمكنني أن أصف لك أحاسيسي بدقة. ولكن أملك أن أقول لك إنني كنت سعيدا جدا. فما حدث شيء فوق المنتظر.

بالنسبة إلى مدير أعمالك، الذي قال لك سابقا إن وجودك بين العدائين العشرة الأوائل في نهاية السباق يعد إنجازا، ترى كيف كان موقفه وقد فزت بالمركز الأول، وبالميدالية الذهبية؟

دعني أقول لك إن مدير أعمالي، الذي كان يدير في الوقت نفسه أعمال عدائين يستعملون ألبسة شركة “نايك” وآخرين يستعملون ألبسة شركة “أديداس”، حدثت له قصة مثيرة للغاية في تلك الأثناء، وحكاها لي لاحقا، حين التقيت به.

قال لي إنه كان يتابع سباق الماراثون في ضيافة أحد الموزعين التابعين لشركة الألبسة الرياضية “نايك”، برفقة عدد كبير من ضيوف ذلك الموزع. وبينما كنت أتقدم، وأناور، وأمضي قدما في سباقي، كان هو يبدي سعادته، ويطير فرحا.

أما وقد شاهدني أدخل ملعب سان دوني، وأتقدم نحو خط النهاية، فائزا ببطولة العالم، فقد غمرته السعادة، وأشهرها على الملأ. ولأنه في ضيفا موزع “نايك”، فقد كان المعنيون يسألونه :”علاش كتفرح؟ راه العداء ديال أديداس هذاك؟”.

كان موقفا محرجا بالفعل.

في الواقع لم أكن قد تعاقدت مع شركة “أديداس” بعد. ومع ذلك، فقد شاركت في دورة باريس لبطولة العالم بحذاء لشركتهم، في مقابل مبلغ مالي بسيط. في حين كان القميص الذي لبسته يعود إلى شركة “نايك”، وهي الشركة التي كان قد تعاقد معها المسؤولون عن المنتخب الوطني المغربي (الجامعة الملكية المغربية لألعاب القوى).

فبم كان يجيبهم مدير أعمالك على سؤالهم، وهو في محله؟

كان الرجل مأخوذا بشدة الفرح لما قدمته في ذلك السابق التاريخي، دون أن ينتبه إلى أنه يشجع عداء يلبس حداء لشركة ألبسة تنفس تجاريا تلك التي تستضيفه ليتابع السباق. وكان الجواب :”إن هذا العداء من الذين أشرف عليهم”.

ولم يكن ينتظر أن يقولوا له:”وعلاش ما جبتيهش لعندنا؟ علاش ما جبتيهش يجي يدخل معنا يلبس النايك؟”. التقيت به في ذلك اليوم، وابدى سعادته الكبيرة لما تحقق. وقص علية الحكاية التي حدثت له في ضيافة “نايك”.

الحمدلله، فمؤخرا اتصل بي ليقول لي إنه يعتبر الفترة التي كان يدير فيها أعمالي واحدة من بين أفضل الفترات في مسيرته العملية. قال إن التزامي بالتداريب، وجديتي في احترام المواعيد، وحضور السباقات المبرمجة، فضلا عن منافستي المستمرة على الألقاب، شكلت له لحظات سعيدة كثيرة جدا، لا يمكن أن ينساها. وشكرني على كل ما قدمته له.

كنت تمني النفس باستقبال ملكي. لكن نظرا للظرفية التي عاشها المغرب حينها لم يتم لك ما تمنيته. أليس كذلك؟

نعم. فحين اتصل بي جلالة الملك ونحن في العاصمة الفرنسية باريس، وهنأني، ثم سألني عن توقيت العودة إلى المغرب، أملت استقباله كي تكتمل فرحتي. غير أن ظرفية الزلزال الذي ضرب مدينة الحسيمة ونواحيها في تلك الآونة حال دون ذلك الاستقبال.

غير أن ربي قدر لي أن أكسب سباق الماراثون مجددا في بطولة العالم، التي جرت في هيلسينكي الفنلندية، وحظيت بعد العودة باستقبال ملكي، عوضني عن أمنيتي السالفة عقب دورة باريس.

كيف كان الاستقبال سنة 2005، عقب الرجوع من هيلسينكي، بميدالية ذهبية لسباق الماراثون؟

“مشينا للقصر الملكي بمدينة تطوان.. استقبلنا سيدنا.. وفرح بينا”. وهي لحظات لا تنسى أبدا. لا نسى.

 

حاوره: يونس الخراشي (من الأرشيف)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *