في الدار البيضاء، تستقبل، مقبرة الغفران، يوميا، ما بين 30 إلى 60 جثمانا، وتضم حاليا ما يزيد على 35 ألف ميت، أو أكثر، إذ أن عمليات الدفن تتواصل في الجانب الجديد، فيما يحدث أن يدفن بعض الموتى في الجانب القديم، حيث تكتري أسر مقابر خاصة (عبارة عن بنايات صغيرة تضم مقابر لأسر بعينها).
يونس الخراشي-( الصحراء والمغربية )
يكاد زائرو قبور أقاربهم وأحبابهم وأهاليهم بمقبرة الغفران، بمنطقة المجاطية (الهراويين)، بمدينة الدار البيضاء، لاسيما الجانب المتقادم منها، يسمعون همسات الموتى وهم يشتكون من بشاعة المنظر من حولهم، حيث تتكاثر الأوساخ، وطلاب الدراهم بلا وجه حق، بينما يفترض أن يكون المجال عبارة عن ضريح كبير، كله روحانيات ورياحين.
للمقبرة ثلاثة مداخل في الوقت الحاضر؛ الرئيسي يؤدي إلى المدافن القديمة، والثاني يؤدي إلى مدافن تكاد تمتلئ، والثالث، وهو الجديد، يؤدي إلى مدافن استحدثت أخيرا للتخفيف عن الثانية. غير أن المدخل الوحيد الذي يحظى بمرآب للسيارات، وبوابة مشيدة، وواجهة نظيفة إلى حد ما، هو المدخل الرئيسي. أما المدخل الثاني، حيث يكثر الزوار، فيكاد يشبه أرضا خرابا، بلا خرائط.
جرت العادة أن يزور المغاربة مدافن الأحباب، ممن توفاهم الله، وفي الأيدي قوارير “ماء الزهر” وأخرى للماء، تروى بها القبور مع الدعوات وآيات القرآن الكريم، وبعض الدموع أيضا. غير أن معظمهم، فيما يبدو، ينسوا أن يأخذوا معهم القوارير الفارغة، التي تتراكم جنب بعضها البعض، في مشاهد بشعة للغاية، تفقد المكان روحانيته، وتجعل من يزوره يشعر بالقرف، حيث ينبغي أن يشعر بالحزن، مع بعض الطمأنينة، وهو يقول:”السلام عليكم أهل القبور… أنتم السابقون ونحن اللاحقون”.
المقبرة الرئيسية.. مكان موحش..
وبزيارة قصيرة إلى مقبرة الغفران، القديمة، يكاد المشهد نفسه يتكرر. فالحشاش تكاد تغطي عددا مهما من القبور، بحيث يصعب على الزائر أن يستذكر المكان بالضبط، فيما سيتعين على الزائر الجديد أن يستعين بغيره لكي يعثر على القبر (هناك شوارع بأسمائها، ولوحات صدئة للتشوير تبين سنوات الدفن).
وخطوة بعد أخرى، بين المدافن الأسرية، وغيرها من المدافن العادية، حيث تتناثر القبور دون أي نظام واضح، وتحفها، أو تكاد تغطيها، بعض الحشائش، فيما الأزبال، من أوراق الشجر، والقوارير الفارغة، وغيرها، تملأ جنبات الطريق، بل وحتى داخل المدافن، تندثر الأجواء الروحانية شيئا فشيئا، لتحل محلها أجواء من الغضب، على حال مقبرة يتعين أن تحظى بأقصى درجات النقاء والبهاء والجمال، وحتى الجلال.
وقد يحدث أن يشعر الزائر بالخوف أيضا، وهو يدخل مدفنا معينا، يضم قبورا لسنوات معينة، بحيث يجد نفسه وحيدا، في مكان موحش للغاية، بقبوره المتهالكة، والحشائش المتناثرة، والقناني الفارغة التي تملأ الحواشي. ويزيد الخوف حين يلتقي أحدهم وهو يحفر بجانب قبر ما، أو قبرا ما، دون أن يدرك ما إن كان يحفر ليزرع شتيلة تخضر بعد حين، أو بحثا عن شيء ما لا يعلمه إلا هو. وقد يصبح الخوف هلعا حين يفاجأ باثنين أو ثلاثة يحملون الأصباغ وقناني المياه، وبألبسة متسخة، وهم يعرضون خدمة من قبيل صباغة القبر، أو تنظيفه، أو ريه بالماء، ويمدون الأيدي بإلحاح شديد، طلبا لصدقة إجبارية.
المقبرة الجديدة.. سويقة وكلاب
بمجرد الدخول إلى المقبرة الجديدة، من الباب الثاني، والذي ليس بابا في واقع الأمر، تبرز القبور وقد بلغت بمحاداة الشارع الرئيسي المؤدي إلى طريق مديونة يسارا، وطريق تيط مليل أو الدار البيضاء الميناء يمينا.
ثم تصل بك الطريق، التي تحفها مبان قديمة بعضها متهالك وفارغ وموحش، إلى ربوة تظهر المقبرة كلها تقريبا، بحيث تتضح لك شساعة المكان، ومدى كثرة الذين دفنوا هناك، والحركية الغريبة التي تملأ البوابة الثانية، غير بعيد.
فهناك مرآب مترب غير رسمي، في الطريق إلى “الدوار”، يقف بجانبه بعض الشباب، ممن يدعون أنهم حراس السيارات، وقد يقترحون عليك دراجة أو “تريبورتور” لإيصالك إلى المكان الذي تريده من المقبرة، وربما يعرضون عليك بضاعتهم من الماء و”ماء الزهر”، بل قد يلتصق بك بعضهم، وأنت تمضي الخطو، على أساس أنه سينظف القبر، ويرويه بالماء، مقابل ثمن معين.
وفي الطريق من البوابة الثانية، حيث يجلس بعض المتسولين، ومعهم أو قريبا منهم باعة المياه و”ماء الزهر” وأعواد الند، وأشياء أخرى، يتضح بأن شيئا ما تغير عقب فيضان 2021، حيث أن أغلبية القبور صارت بارزة، ومحمية ببناء من حجر أصفر أو زليج، وبشواهد واضحة، إلا في ما نذر. غير أن من يزورون يجدون أنفسهم في حرج، وهم يقبلون على موتاهم بالدعاء، إذ يتهافت عليهم “فقهاء” يطلبون قراءة القرآن، أو متسولون مقنعون، في لبوس من يقترح تنظيف القبر وريه ببعض المياه. وقد يحدث أن يرفض الطلب، فيكون رد الفعل قبيحا للغاية، ومثيرا للأسف في مكان يفترض أن يشكل عبرة بموتاه وقبوره، وسكونه الأبدي.
مقبرة الغفران.. ها ميت آخر
تجدر الإشارة إلى أن مقبرة الغفران، التي أنشئت سنة 1989، على قطعة أرضية تابعة لأملاك الدولة، تمتد على مساحة 135 هكتارا، ضمن تراب إقليم مديونة – المجاطية أولاد الطيب، تستقبل، يوميا، ما بين 30 إلى 60 جثمانا، وتضم حاليا ما يزيد على 35 ألف ميت، أو أكثر، إذ أن عمليات الدفن تتواصل في الجانب الجديد، فيما يحدث أن يدفن بعض الموتى في الجانب القديم، حيث تكتري أسر مقابر خاصة (عبارة عن بنايات صغيرة تضم مقابر لأسر بعينها).
وحين يغادر الزائر، يتأكد، أكثر من أي وقت مضى، بأن الموت أيضا له حياته التي لا تنتهي. ففي الجانب المواجه من الطريق، تترى سيارات الموتى، بعضها وراء بعض، حيث يبدو الحزن على وجوه المرافقين، فيما تستعد المقرة لاستقبالهم وهي بحال يستحق الحزن أيضا.