تحل غدا الاثنين 22 ماي الذكرى السادسة عشر لوفاة إدريس بنزكري، الشخصية البارزة في سجل الدفاع عن حقوق الانسان في المغرب، والذي عُدّ “مهندس” المصالحة وطيّ الصفحات السوداء لـ”سنوات الرصاص”، إذ استطاع أن يوفّق بين عرض التصالح الذي تقدّمت به الدولة وبين مطالب ضحايا الانتهاكات، رغم أن المشروع لم يسلم من انتقاد الحقوقيين.
ولادته ونشأته
في قرية “آيت واحي” في ضاحية مدينة تيفلت، التي تبعد عن الرباط بنحو أربعين كيلومترا، والتابعة إداريا لإقليم الخميسات، رأى بنزكري النور في 1950 في كنف أسرة متواضعة الحال.
بعد التعليم الابتدائي الذي تلقاه في مدرسة القرية، التحق بالخميسات 1965 لمواصلة تعليمه الإعدادي. ومنها انتقل إلى الرباط لإكمال تعليمه الثانوي، في ثانوية الحسن الثاني. وهناك احتكّ بأساتذة الفلسفة والآداب، من مغاربة وفرنسيين، واكتشف مجلة “أنفاس” وتعرّف على مؤسّسَيها الشاعر عبد اللطيف اللعبي والمناضل أبراهام السرفاتي.
حصل بنزكري على دبلوم الدراسات المعمقة في اللسانيات والآداب من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس بالرباط في 1983، ثم على دبلوم الدراسات المعمقة في اللسانيات من جامعة إيكس مرسيليا في فرنسا (1987) وعلى الماجستير في القانون الدولي -تخصص القانون الدولي لحقوق الإنسا) من جامعة أسيكس في إنجلترا سنة (1997).
تجربته النضالية
في مرحلة الثانوية والجامعة، إبّان انتشار الفكر اليساري، بمختلف مذاهبه الثورية، واندلاع ثورة الطلاب في فرنسا (1968) وحرب فيتنام، عاش بنزكري نضج الوعي النضالي والسياسي. وكان الرجل قد دخل في غمار الاحتكاك بتوترات الساحة السياسية في المغرب من خلال مجاورته أحد القيادات المحلية المعروف بمناهضته لحزب الاستقلال، وهو بالكاد في الـ12 من عمره.
في 1965، وقعت أحداث مارس الرهيبة في مدينة الدار البيضاء، والتي قتل فيها العشرات من المحتجين الذين كانوا يشاركون في مظاهرة ضد الحكومة، وكان لتلك الأحداث وقع كبير في نفس إدريس بنزكري ستلازمه تبعاتها طوال حياته.
في مرحلة دراسته الثانوية، تزايد نشاط إدريس، فانضمّ أولا إلى مجموعة طلابية تابعة لحزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي سابقا) لكنّ “الماوية” (فكّر ماوتسي تونغ) كانت أكثر إغراء بالنسبة إلى جيل الشباب، الذي كان يطمح إلى “التغيير الجذري”.
وبعد تأسيس منظمة “إلى الأمام” فيهر غشت 1970، كان بنزكري من أوائل الملتحقين بها. وقد كُلف بتشكيل الخلايا الأولى في منطقة “زمور”، والأطلس المتوسط والغرب. وطيلة عامين، كثف بنزكري حركته على صعيد التعبئة والاستقطاب من خلال التغلغل في أوساط الجمعيات والنقابات.
حين بدأت حملات الاعتقال ضد ناشطي الماركسية اللينينية في 1972، اضطر بنزكري ورفاقه إلى دخول مجال العمل السّري، فأُلقي عليه القبض في الدار البيضاء في 1975 وأودع سجن “درب مولاي الشريف” الرهيب، الذي استقبل جل مناضلي اليسار في السبعينيات والثمانينيات.
وفي 1977، أصدرت المحكمة حكما بالسجن 30 عاما نافذة في حق بنزكري، قضى منها 17 عاما، قبل أن يُفرج عنه في 1991.
في المعتقل، خاض بنزكري ورفاقه معارك مشهودة، أبرزها الإضراب عن الطعام لانتزاع حقوقهم داخل السجون، ما مكّن إدريس من متابعة دراساته العليا.
وكان قد قال عن مرحلة اعتقاله الطويل، في حديث لصحيفة فرنسية “نشعر دائماً بأن الجرح لم يندمل، لكنه ليس شيئاً يفسدنا من الداخل.. وأقول نحن وليس أنا، لأن كثيرين واجهوا المصير ذاتَه”.
التحق بنزكري، فور مغادرته أسوار السجن بالمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، التي عمل فيها في البداية مديرا تنفيذيا، قبل أن يتقلد مسؤولية نائب الرئيس. ويُجمع متتبعو الشأن الحقوقي في المغرب على أنه أعطى دينامية لافتة لعمل المنظمة على واجهات الرصد ومتابعة الخروقات واقتراح الإصلاحات والسياسات الملائمة لكل موقف.
في 1996، انضمّ إلى مجموعة من الناشطين في مشروع تأسيس إطار جمعوي واسع حمل اسم “الفضاء الجمعوي” وكان عضوا في مكتبه التنفيذي.
مهندس العدالة الانتقالية
في 1999 وُضعت اللبنات الأولى التي قام عليها مسلسل العدالة الانتقالية في المغرب، إذ شارك إدريس بنزكري في التجمع الوطني الأول لضحايا لانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في الدار البيضاء، الذي أفضى إلى تأسيس منتدى الحقيقة والإنصاف. وساهم في صياغة الوثيقة التأسيسية والنظام الأساسي للمنتدى الذي كان أول رئيس له، والتي اعتمدهما المؤتمر يوم 28 يناير 1999 وأصبحا من وثائقه المحورية.
ومن روح هذا العمل التأسيسي، تلقّت الدولة الرسالة، فدعا الملك محمد السادس الراحل بنزكري من أجل قيادة “هيئة الإنصاف والمصالحة”، التي أنيطت بها مهمة تصفية ملفات الانتهاكات في الفترة من 1956 إلى 1999.
درست الهيئة أزيد من 20 ألف ملف حقوقي وقررت صرف التعويض المادي للضحايا وعائلاتهم، وأجرت التحريات التي أسفرت عن كشف المقابر السرية التي دُفن فيها كثير من ضحايا القمع والقتل خارج القانون وتحويل مراكز الاعتقال إلى أماكن للذاكرة وإطلاق برامج تربوية وتشريعية للمصالحة مع الماضي.
في المقابل، كانت لعدد من الحقوقيين تحفظاتهم بشأن التجربة، سواء من الضحايا أو الهيئات الحقوقية، إذ تمسّك البعض بضرورة إصدار اعتذار رسمي صريح من قبل الدولة ورفض فكرة طي صفحة الماضي عبر التسوية غير القضائية، باعتبارها نوعا من الإفلات من العقاب. كما انتقد هؤلاء “عجز” الهيئة عن كشف مصير شخصيات بارزة تتصدر قائمة المختفين، وهم المهدي بنبركة وحسين المانوزي وعبد الحق الرويسي…
بعد حلّ الهيئة، واصل إدريس بنزكري المهمة من خلال تعيينه رئيسا للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسا، الذي ظل فيه حتى وفاته.
رثى الملك محمد السادس في برقية تعزية الرّاحل إدريس بنزكري في رسالة قال فيها إن “فقيد الوطن الكبير سيظل خالدا في ذاكرة هذا الوطن، بإسهامه الرائد في العمل التاريخي والفاعل على رأس هيئة الإنصاف والمصالحة، التي كانت لبنة أساسية في تحقيق الانتقال الديمقراطي الذي نقوده”.
وكرّمه الملك أيضا من خلال تنفيذ وصيته البسيطة، التي تمثلت في إحداث مجموعة من المنشآت الاجتماعية في مسقط رأسه: مستوصف ومدرسة ومسجد وبعض المرافق الأخرى…
وإلى جانب نضاله الحقوقي، كان بنزكري مدافعا غيورا عن الثقافة واللغة الأمازيغية والشعر الأمازيغي بصفة خاصة. وقد أنجز في إطار تكوينه اللساني العديد من الدراسات والأبحاث في هذا المجال.
في 22 ماي إذن تحلّ ذكرى وفاة إدريس بنزكري، المناضل الذي تحدى سجون سنوات الرصاص وهزمه السرطان.