عاودني خاطر هواجس أهوال التـ.عذيب، الذي ينتظرني، إن تم الإمساك بي، وكيف سيتم تمزيق لحمي وأنا حي، فقد كنت في الطريق لقتـ.لهم.(سلمة)

*أعدها للنشر: أحمد حمدان

في هذه الحلقات المثيرة جدا، والتي أعدها مصطفى سلمة ولد سيدي مولود، الناشط الصحراوي الحقوقي والسياسي المبعد من مخيمات تيندوف إلى موريتانيا، يروي والده، المجاهد سلمة سيدي مولود، كيف التحق بأول كتيبة لجيش تحرير الجنوب، قطعت عمق الصحراء بهدف إسقاط القاعدة الجوية الفرنسية في مدينة “أطار” شمال موريتانيا… كانت بقيادة محمد بنحمو المسفيوي، قبل أن يخلفه علال لخميسي، ومعه عْلي المسفيوي نائبا له.

انضم إليهم سلمة سيدي مولود، وسار بهم، في فبراير 1957، دليلا عبر أودية الساقية الحمراء إلى ضواحي مدينة السمارة، ومنها سيكون الانطلاق نحو الهدف، في ظروف طبيعية وعرة، ما بين صحارى قاحلة، وجبال ومغارات وأحجار، وجِمال وبنادق ورشاشات… وفي هذه الطريق، ستلاقي الكتيبة الأهوال، جنود فرنسيون ومجندون موريتانيون وطائرات وقنابلها الجحيمية، إنها “القيامة الآن” (Apocalypse Now)، مع فارق: أن المخرج الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا يرويها في فيلم، والمجاهد الصحراوي سلمة سيدي مولود يرويها في معركة حياة أو موت دارت رحاها على أرض الواقع…

 

 شجاعة قائدي الشاب تعيد لي الأمل وتنقذني من الأسر

 

تمر ساعات الليل رتيبة، إلا من صرخات وأنّات قائدي الشباب التي يتفطّر لها القلب. وكلما سمعته يذكر أمه بصوت مبحوح، كأنما يخشى أن يوقظها في تلك الساعة المتأخرة من الليل، وتكتشف هول ما به، ينقبض صدري وتتزاحم صور عائلتي أمام ناظري، كما لو كنت أقف بباب خيمتنا، وبشرى إطلالتي عليهم تشع وجوههم نورا، وقد مضت أشهر على غيبتي. وتطمع نفسي لو أن خاطرا ينبِئُهم بحالي فيهبّون لنجدتي.

رفيقي كلما أخرست القنابل اليدوية، التي تتساقط فوق رؤوسنا، صراخاته، يتحول وجعه إلى أنين يدمي القلب وأرق لحاله، فمع سوء حالته، ما يزال صغير السن ودياره بعيدة في أقصى الشمال. وينقبض صدري حسرة على عجزي عن مساعدته والتخفيف عنه. فأنا الآخر مثله غير قادر على الحركة، وإن كنت أقل وجعا.

ذهني مشتت بين ألم الوجع وبين فزع أنه لا سبيل أمامي للنجاة، وقد غادر جل الرفاق على عجل، ومن هم حولي أعجز مني، والعدو أقرب إلي من الصديق، ولا أدري ما سيكون المصير في الساعات القادمة.

وكلما خطر ببالي أنه من المحتمل أن يتم أسري وتعذيبي، أقول مع نفسي لو أن شظية من القنابل، التي تنفجر عند مدخل المغارة، تخترق جسدي وتنهي حياتي وينتهي معها هذا الكابوس، أما الألم، فلم يعد يُشغلني.

في ساعة متأخرة من تلك الليلة، كلمني القائد علال أول مرة منذ إصابته.

سألني: “الدراري فين”؟

قلت له: ذهبوا.

سألني: إلى أين؟

قلت: لا أدري.. ربما انسحبوا.

سألني عن حالتي: وأنت مالك؟ (بم تحس).

قلت له: أنا مهرّس (مكسور).

سألني: هل تستطيع الحركة؟

قلت: لا.

كرر علي السؤال ثلاثا، وأنا أجيب بالنفي.

ثم قال، بنبرة مشفقة ومحفزة، كأنه يحلّني من أي التزام تجاهه: حاول أن تنزل من الجرف وتنجو بنفسك قبل أن يحل الصباح و”يجيوْا يشدّونا بجوج” (يأتون ويقبضون علينا معا).

كان الشاب “علال”، في تلك اللحظات الحرجة، أكثر رباطة جأش وشجاعة مني، رغم أنه يصغرني سنا، وحالته أسوأ من حالتي.

بقيت كلِمتُهُ “يجيوا يشدونا بجوج” تتردد في ذهني، كما لو أن أحدا يوقظني من نوم عميق، وينبّهني إلى خطر داهم.

وعاودني خاطر هواجس أهوال التعذيب، الذي ينتظرني، إن تم الإمساك بي، وكيف سيتم تمزيق لحمي وأنا حي، فقد كنت في الطريق لقتلهم، وقتلي وحده لن يشفي غليلهم مما كنت ورفاقي ننويه فيهم.

كلمة القائد “يجيوا يشدونا بجوج” حوّلت كل اليأس والقنوط والعجز، الذي كان يثبط عزيمتي ويَحُول بيني وبين محاولة الخروج من فم الثعبان والنجاة بنفسي، إلى رعب مِمّا قد يحصل إذا ما بقيت متسمرا في مكاني، فاستجمعت شجاعتي وما بقي في من جهد، وسحبت رجلي المصابة بشدة، كما لو كنت انتزعها انتزاعا من أرضية المغارة الملتحمة بها منذ الظهيرة. كان الالم شديدا، لكنني تحملت. فالاستسلام للأسر والعذاب أكثر إيلاما من لحظة ألم عابرة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *