العدو من فوقي أسمع حركته أعلى الجرف، وكلما صرخ رفيقي القائد من شدة الألم يرموننا بالقنابل اليدوية، فتنفجر عند مدخل المغارة.(سلمة)

*أعدها للنشر: أحمد حمدان

في هذه الحلقات المثيرة جدا، والتي أعدها مصطفى سلمة ولد سيدي مولود، الناشط الصحراوي الحقوقي والسياسي المبعد من مخيمات تيندوف إلى موريتانيا، يروي والده، المجاهد سلمة سيدي مولود، كيف التحق بأول كتيبة لجيش تحرير الجنوب، قطعت عمق الصحراء بهدف إسقاط القاعدة الجوية الفرنسية في مدينة “أطار” شمال موريتانيا… كانت بقيادة محمد بنحمو المسفيوي، قبل أن يخلفه علال لخميسي، ومعه عْلي المسفيوي نائبا له.

انضم إليهم سلمة سيدي مولود، وسار بهم، في فبراير 1957، دليلا عبر أودية الساقية الحمراء إلى ضواحي مدينة السمارة، ومنها سيكون الانطلاق نحو الهدف، في ظروف طبيعية وعرة، ما بين صحارى قاحلة، وجبال ومغارات وأحجار، وجِمال وبنادق ورشاشات… وفي هذه الطريق، ستلاقي الكتيبة الأهوال، جنود فرنسيون ومجندون موريتانيون وطائرات وقنابلها الجحيمية، إنها “القيامة الآن” (Apocalypse Now)، مع فارق: أن المخرج الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا يرويها في فيلم، والمجاهد الصحراوي سلمة سيدي مولود يرويها في معركة حياة أو موت دارت رحاها على أرض الواقع…

 

حي عاجز بين الأموات والقنابل تتهاطل على مدخل المغارة

 

بعد إصابتي بقيت ممدّدا بين الشهيدين: “فشل ولد باهية” و”ولد السمان”، قبل أن يلحق بهما رفيق ثالث شاب كان يسند ظهره إلى طرف المغارة، وجسده مغطى بالدماء والغبار. كنت أسمعه يقول من جملة ما يتمتم به: سامحوني يا إخواني المجاهدين، مرحبا بالشهادة بينكم…، قبل أن تنقطع أنفاسه، ولم أعد أسمع له صوتا أو حركة، وعرفت أنه فارق الحياة.

ثلاثتهم كانوا صحراويين من الرگيبات اولاد موسى، وفي جانب من المغارة، قائدُنا الشاب علال بوكدو من الخميسات، بالكاد يكون قد بلغ 25 سنة من العمر، مصابٌ هو الآخر ثلاث إصابات خطيرة: كسر في الفخذ، وآخر في الذراع، وكسر على مستوى عظمة إحدى عينيه، وجهه مخضب بالدماء، وعاجز عن الحركة، ويتألم بصوت عال.

كنت ما زلت شابا في التاسعة والعشرين من العمر، ولم يسبق لي أن شهدت معركة ولا خسائر بهذا الحجم. وبعد مغادرة الرفاق الذين نجوا من القصف، ساد الصمت في شعاب الجبل من حولي، وشعرت بوحدة قاتلة، كما لو أني في بداية الرحلة البرزخية وملك الموت واقف يعد ما تبقى لي من أنفاس، وقد انقطعت عن الرفاق والأهل وكل من كان حولي.

في تلك الساعات، تجمد تفكيري، كما هو حال جسدي، الذي التصق بأرضية المغارة الصخرية بعد جفاف الدماء الغزيرة ،التي سالت مني ومن رفاقي وامتزجت بغبار المغارة وتربتها الطينية. وكلما فكرت في تخليص رجلي أتألم بشدة، وما زلت لا أعرف حجم إصابتي.

الرفاق بين من هو مسجى بجانبي في حالة أسوأ من حالتي، وبين من التمس طريقه للنجاة وانسحب. والعدو من فوقي أسمع حركته أعلى الجرف، وكلما صرخ رفيقي القائد من شدة الألم يرموننا بالقنابل اليدوية، فتنفجر عند مدخل المغارة.

كانوا يسمعون صراخ رفيقي القائد الجريح من شدة الوجع، ولا يستطيعون الوصول إلينا في ذلك الظلام.

كانوا منا كما لو أن أحدهم فوق سطح منزل ويرمي عليك القنابل من علِ وأنت مختبئ في البيت تحته. قنابله تنفجر عند المدخل وتتطاير شظاياها من حولك، ويختلط دخانها مع رائحة الدماء، التي ترقد في بركة منها وتختنق أنفاسك، وكل صوت تصدره، حتى لو كان سُعالا، هو دعوة لقنبلة جديدة واختناق جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *