يسألك السائق عن الوجهة ، تقول له “شارع محمد الديوري” يكون الجواب الفوري كلمة واحدة “لا” .

ثم كان أن توقفت سيارة، يقودها شاب. سألني : إلى أين؟، شرحت له. طلب مني وضع الحقيبة التي أجرها وتجرني يومياً في المقعد الخلفي.

طلحة
*طلحة جبريل

كان يوما حافلاً بالمفارقات والمصادفات في مدينة القنيطرة .

انتظرت في محطة القطار قرابة ساعة، آملاً أن أجد سيارة أجرة  تحملني إلى حيث ينتظرني طلابي .

باءت المحاولة بالفشل .

يسألك السائق عن الوجهة ، تقول له “شارع محمد الديوري” يكون الجواب الفوري كلمة واحدة “لا” .

ثم كان أن توقفت سيارة، يقودها شاب. سألني : إلى أين؟، شرحت له. طلب مني وضع الحقيبة التي أجرها وتجرني يومياً في المقعد الخلفي.

 قال باقتضاب: أعرفك جيداً وأقرأ لك دائماً.

شكرته كثيراً. قلت له “أنت إنسان رائع”. استأذنته في أن أكتب عن الواقعة، رد قائلاً : لم أفعل شيئاً شاءت  قادتني إليك الأقدار. عرفت بأن أسمه “وليد حبيب الله”. تأملوا هذا الاسم .

 أنهيت الدرس لطلابي، دلفت إلى شارع مجاور. شاب يتجول ببعض الكتب.لاحظت أنه يبيع بعض الكتب المستعملة، من بينها راوية صدرت في الثمانينيات للكاتب مبارك الدريبي بعنوان “طيور المساء” اعتبرتها كذلك هدية من السماء. 

استقليت سيارة أجرة للعودة إلى محطة القطار، خمن سائقها بأنني من بلاد النيلين لباي تعاني عطشاً.

تترى المفاجآت. قال لي السائق إن زوجته من أب سوداني وأم مغربية، وكان صهره يعيش في القنيطرة قبل أن يغادر دنيا الناس.

في رحلة القطار من القنيطرة إلى الرباط تصفحت رواية “طيور المساء”. تذكرت مبارك الدريبي. لن أزعم أنه كان صديقاً، لكن قطعاً عرفته عن قرب ، يوم كان يطحن أيامه في مطحنة للغلال في القنيطرة .

كان يجيء إلى صحيفة “العلم” لماماً، كنت آنذاك أعمل مع أستاذي عبد الجبار السحيمي في الصفحة الأخيرة  وفي “ملحق العلم الثقافي” .

عادة ما يرتدي معطفاً جميلاً، دون ربطة عنق، يضع نظارات سوداء، يأتي متأبطاً معه قصة قصيرة للملحق .

أتذكر حين كان يمازحني قائلاً : كيف حال بلدكم ؟

أجيبه :ياسي مبارك، لعله البلد الوحيد الذي لم ترهقه بعد الانقلابات والثورات والحروب الأهلية.

كنت أجد متعة في قراءة قصصه. يغرف من واقع المهمشين في القنيطرة ، في جمله القصيرة ، ولغته المسنونة الحادة. يعرف جيداً كيف يضع على لسان أبطاله كلمات معبرة حتى ولو كانوا من الأميين المسحوقين. كانت له أيضاً عين لاقطة تعينه على تضمين جزئيات دقيقة  في نصوصه .

 في جميع قصصه تلحظ قدرة على تلمس آثار ورائحة “الأميركان” الذين كانوا في زمن مضى جزءً من ذاكرة القنيطرة.

سقط الدريبي ذات يوم داخل مطحنة غلال في”وادي زم”، وعندما نقل إلى منزله، كان قد فارق حياتنا، أما حياته، فستبقى بيننا بمجموعاته القصصية، وقصصه المبعثرة هنا وهناك .

*كاتب صجفي

طلحة. الدريبي القنيطرة والحجام بني ملال.. رثاء متصل

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *