هي ثلاث جبهات قتالية مجتمعة هذه السنة، تهاجم الاقتصادات الوطنية وطبعا لم ينج المغرب من هذه المواجهة المرة!
الذين عايشوا الحروب بشكل ملموس، وشهدوا بأم العين حجم الدمار الذي تخلفه يفهمون ما معنى تأثير الحرب المسلحة العنيفة على الاقتصادات وعلى الشعوب، وما تخلفه من مجاعات وأوبئة، وتحدث الشهود في المغرب عن عام الجوع بسبب الحروب العالمية، وعن زمن أكل “البكوكة” وهي نبتة مرة طحنها العباد وغلوها مع الماء وأكلوها.
الحرب الروسية حاليا، وإن كانت جغرافيا بعيدة عن عدد من الدول وعن المغرب، لكن مع زمن العولمة وارتباط الاقتصادات بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية، جعل أبعد قطعة في الأرض متضررة بها. رواد شبكات التواصل يعرفون كيف أن عطلا في مكان ما من العالم قد يقطع عنهم حبال التواصل عبر الشبكات الاجتماعية.
بعد سقوط جدار برلين وانهيار القطب الشيوعي الشرقي وتفكك الاتحاد السوفياتي، ومع التطور العلمي والتكنولوجي، ومع إحداث منظمة التجارة الدولية وانخراط الدول في اتفاقياتها، بتنا نعيش تحولا في مفهوم السيادة الوطنية خصوصا في الجانب الاقتصادي، فأصبح نسبيا أمام اعتماد الدول على منتجات دول اخرى.
الحرب الروسية إضافة إلى أنها أحرقت المحاصيل الزراعية في اكثر الدول انتاجا للحبوب، أوكرانيا، فإنها أيضا وبفعل الارتباطات الاقتصادية بواسطة عقود إنتاج وتموين، وبواسطة استثمارات مباشرة أو في البورصات العالمية، فإنها قد قطعت خطوط الامداد الدولي للمواد الأساسية ومنها الحبوب والبترول والغاز، و خفضت من معدلات النمو، وخلقت نوعا من الهلع لدى دول العالم، وفي نفس الوقت خلقت جنوحا نحو الاحتكار وارتفاع الأثمنة، بالنظر إلى أن الحرب هي دائما فرصة للمبالغة في الاغتناء وفي ابتزاز الدول.
ولهذا الغرض، وجد على رأس الحكومة شهص يعرف أسواق المحروقات جيدا، شخص ليس من عالم السياسة التقليدية وإنما شهص يفاوض السوق الدولي، باعتباره ذو خبرة تجارية، من أجل عقود تموين السوق المحلية بأقل التكاليف، وإلا فإن وجود شخص آخر في هذا السياق، شخص ذو تكوين جامعي عادي، أو محامي أو أستاذ أو سياسي تقليدي، فإنه مهما كان ذكيا فإنه لن يفهم تقلبات سوق الطاقة ولا يستطيع الدخول في عمليات تجارية لسوق متوحشة لا ترحم.
الجبهة الثانية تقف فيها كورونا بالمرصاد للشعوب! كورونا التي عشنا يومياتها، وما زلنا، نتذكر كيف أفلست المقاولات بسببها، وكيف شرد عشرات الآلاف من العمال، وكيف تسببت في عزل الدول عن بعضها البعض، حتى أن دول أوروبية كانت هددت بالانسحاب من الاتحاد بسبب عدم اعتمام باقي الدول بها، كما حدث مع ايطاليا سنة 2020.
كورونا ذلك المرض الفتاك الذي يصيب جسد الانسان ويتعبه، فإنها أيضا اصابت جسد الدولة واقتصادها، فبدأ يخرج من حالة الوباء، هزيلا ضعيفا منهكا، يحتاج الى مواكبة علاجية متوسطة المدى، وإلى مقويات وفيتامينات، صعبت حرب روسيا الحصول عليها بسهولة.
آثار كورونا ليست آثارا يسيرة الزوال، ولا يمكن لأي حكومة في العالم أن تمحوها بجرة قلم أو بقانون مالية واحد, آثارها عميقة ضربت المقاولات والانتاج والاستهلاك في مقتل، ولا يمكن لعاقل أن يطلب من حكومة بلده العودة بسرعة إلى فترة ما قبل الجائحة بإصدار مرسوم أو قرار إداري، باعتبارها قتلت ما يمكن أن نسميه، مخزون طاقة الإقلاع الاقتصادي، ونحتاح إلى وقت لإعادة تشكيله، والأكثر من ذلك، نحتاج إلى رجال أعمال خبراء شجعان ليقودوا عملية إعادة المقاولة إلى سكة الإنتاج القوي.
من هنا تم أجرأة سلسلة من المشاريع الاقتصادية والتمويلية من قبل الحكومة، ومن ضمنها برامج قروض انطلاقة، وأوراش وآخرها برنامح فرصة، الذي لا شك أنه سيعطي لكل اولئك الذين يمارسون تجارات القرب، القدرة على البقاء في سلسلة المداخيل بترويج منتجات يحتاجها الزبون البسيط.
في الجبهة الثالثة من العدوان الثلاثي، يخيم علينا جفاف مخيف، منع الغلة من الازدهار، وهدد مصادر الماء للسقي والشرب بصورة مقلقة! الذين يتذكرون زمنات الجفاف في المغرب يدركون خطورته المزدوجة، سواء على الاقتصاد وخلق حالة من الركود العام، أو على المستوى الفردي، ودفع آلاف سكان البوادي إلى بيع قطعانهم بأبخس الأثمان والهروب إلى المدن المجاورة مما يزيد من حجم الضغط على الدولة وعلى مواردها الضئيلة أصلا.
هذا الوضع وهذا النزوح نحو المدن، نعلم جميعا تكلفته الاقتصادية والاجتماعية, تكلفة تشمل الغذاء، والمدرسة، والمستشفى والأمن العام، ناهيك عن ازدحامات في السكن ومخاطر الأمراض وتدهور لقيمة أجور العمل، من هنا فكرت الحكومة المغربية في برامج دعم الفلاحين الصغار، وتوزيع الأعلاف، واطلاق مشاريع دعم فلاحي متنوعة.
هو عدوان ثلاثي تحالف علينا بضربة واحدة متزامنة، وهي جبهات ثلاث يتصدى لها المغرب بروح قتالية لا يمكن تبخيسها أو السخرية منها، بل ينبغي رفع منسوب الثقة في الدولة والحكومة، والابتعاد عن النقد غير الهادف، بل ينبغي المساهمة في تفسير الوضع لمتوسطي الفهم، لأنه لا خيار لنا سوى الوحدة والثقة ثم الثقة ثم الثقة.
هذا الوضع، يقتضي أيضا المزيد من التواصل الحكومي، المزيد من النقاش العمومي وإشراك الجميع في وضع التفسيرات المناسبة للأزمة المركبة التي يعيشها العالم بتأثيراتها على المغرب، المزيد من التفكير الجماعي في الحلول الناجعة، وحينها فإن المواقف التي ستنتصر هي المواقف التي تفسر الحاضر ومخلفات الماضي وتقترح حلول المستقبل، معززة بالحجج والحسابات الدقيقة المفصلة، ولن تنتصر المواقف الفايسبوكية وباقي مواقف “علماء وخبراء” الاقتصاد والسياسة، مواقف مسطحة مبسطة تختزل التاربخ الحالي كله في أخنوش وحكومته، مواقف فضفاضة جافة غير مؤسسة على حجج، بل غير مؤسسة أصلا على أي فهم سليم لمعنى الدولة وأركانها الجديدة، ولمعنى تدبير دولة وشعب.
وبكل موضوعية، وبكل تفاؤل وإصرار، وبعيدا عن لغة التشاؤم والهدم، لغة زرع الإحباط يدون أي مقترحات حلول، فإن الدولة ومن خلالها الحكومة، تحاول جاهدة الحفاظ على الاستقرار العام، وعلى تموين الأسواق من السلع الضرورية، بأثمنة يمكن أن نصفها بأنها أثمنة تقاوم بشدة أثمنة الحرب والجائحة والجفاف.