وفاء عماري

بجسم نحيل ووجه ملأته التجاعيد، يجلس محمد التسولي، مغربي في عقده الثامن ممسكا بعكازه في حديقة عمومية قرب غرفة نومه المستأجرة بمدينة ليون الفرنسية. ككل صباح، يخرج ليتأمل السماء ويشاهد المارة، فتعود الحياة لتنبض في قلبه الذي يعاني سنين طويلة من الوحدة والعزلة.

“توفيت زوجتي قبل عشر سنوات، لم نرزق بأطفال. بعد التقاعد ظننت أننا سنمضي بقية حياتنا في المغرب، لكن المرض منعني”، هكذا يصرح محمد لموقع “سكاي نيوز عربية” بنبرة حزينة.

تتعدد الأسباب التي منعت محمد وغيره كثيرون من العودة إلى الوطن بعد مرحلة التقاعد، والنتيجة أن هذه الفئة الهشة من المجتمع التي هاجرت بشكل أساسي من  تونس أو الجزائر أو المغرب في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي وشكلت يدا عاملة قوية في مرحلة التوسع الاقتصادي الفرنسي، أصبحت اليوم، تعاني العزلة والوحدة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط خصوصا خلال فترة انتشار وباء كورونا.

“أيام زمان” حلقة وصل

وبدل أن يجوبوا الشوارع والمنتزهات بحثا عن رفقة تنسيهم مرارة الوحدة، قررت جمعية “أيام زمان” فتح أبوابها بباريس للمهاجرين كبار السن الذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا، حيث توفر لهم مقهى اجتماعيا وسكنا مشتركا وتساعدهم في الحصول على حقوقهم.

وفي هذا الشأن، تقول مديرة الجمعية، مايا لوكوين، في اتصال مع موقع “سكاي نيوز عربية”، إن “المهاجرين المسنين هم فئة منعزلة. أمضوا سنوات طويلة من العمل في فرنسا. لهم جيران وأصدقاء في هذا البلد. هم مرتبطون بأماكن وأشخاص، لا يستطيعون رمي كل شيء وراءهم بعد التقاعد والعودة إلى أرض الوطن”.

وتضيف: “كما أن العديد منهم يعاني من أمراض مزمنة ويريد الحفاظ على حقه في الحصول على العلاج. ورغم أن المعاش يمكن الحصول عليه في أرض الوطن إلا أن المساعدات التكميلية التضامنية تخضع لشروط تصعب رجوعهم”.

ومن بين شروط الحصول على نظام المساعدة التكميلية، بقاء المسن ستة أشهر ويوم واحد في فرنسا.

“تعاونية الشيباني” في خدمة مسني المصانع

وعلى غرار جمعية “أيام زمان” المتواجدة في باريس منذ أكثر من 20 سنة، تفتح جمعيات أخرى أبوابها في مدن متفرقة من فرنسا، لمد يد العون لهذه الفئة “المنسية”، كحال “تعاونية الشيباني” التي تأسست قبل سنة في مدينة روبيه الفرنسية.

وتوضح مسؤولة التواصل في “تعاونية الشيباني”، ليلى الدهيم، في حديثها لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن “القائمين على التعاونية قرروا فتحها  في مدينة روبيه شمالي البلاد، التي كانت تضم عدة مصانع في فترة السبعينيات، وشغلت يدا عاملة مهمة من المهاجرين الجزائريين والمغاربة. وبالتالي، تقطن بها حاليا نسبة مهمة من المهاجرين المتقاعدين”.

وأضافت: “منهم من جلب زوجته في إطار قانون “لم الشمل” آنذاك من بلده الأصلي، ومنهم من أمضى حياته عازبا. وفي جميع الحالات، هم في مرحلتهم العمرية هذه في حاجة ماسة إلى المساعدة. إذ بسبب مشكل عدم تمكنهم من اللغة، لا يحصلون على كثير من الحقوق الاجتماعية التي توفرها الدولة”.

وبلغة الأرقام، تؤكد ليلى الدهيم أنه لا توجد إحصائيات تفيد بعدد المسنين حسب الأقليات. لكن في المجموع، وبحسب دراسة لجمعية “الإخوان الصغار للفقراء” يوجد في فرنسا حوالي مليون ونصف مسن معزول.

ولمساعدتهم على معرفة حقوقهم، تقدم “تعاونية الشيباني” كتيبا يضم في طياته كل حقوق المسنين، وتساعدهم في التسوق وإعداد الملفات الإدارية ليستفيدوا من المساعدات الاجتماعية الإضافية، خصوصا أنه، وفقا لمسؤولة التواصل بالتعاونية، معاش المهاجرين المتقاعدين من الجيل الأول لا يتعدى 800 يورو شهريا، لأن “عقود عملهم كانت غير واضحة، إذ كانوا يعملون ساعات إضافية غير مبلغ عنها وبالتالي لم يستفيدوا منها في مرحلة التقاعد”.

وهذا يذكر بالمعركة التي خاضها المهاجرون المسنون ضد شركة السكك الحديدية لأكثر من اثنتي عشرة سنة، إذ في 31 يناير 2018، حكمت محكمة الاستئناف في باريس لصالح عمال السكك الحديدية (السابقين) ومعظمهم من المغاربة، بمنحهم تعويضات عن الأضرار المعنوية والمهنية والتدريب والتقاعد بمبلغ إجمالي يقدر بنحو 160 مليون يورو. فقد تم توظيفهم بين عامي 1970 و1983 من قبل الشركة بشكل أساسي كعمال متعاقدين، وبالتالي لم يستفيدوا من امتيازات عمال السكك الحديدية الخاصة بالمواطنين الأوروبيين حسب السن.

وباء كورونا زاد العزلة

وإلى جانب كل هذه المشاكل الاجتماعية التي يتخبط فيها المسنون، ومع انتشار وباء كورونا بداية عام 2019، زادت وضعية المسنين تأزما، إذ أن كل الأماكن التي كانوا يرتادونها عادة أقفلت أبوابها، من بينها الأسواق والمقاهي، فاضطروا للبقاء وحيدين في غرفهم أو مساكنهم الصغيرة.

كما أدى إغلاق الحدود بين البلدان المغاربية ودول منطقة الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك فرنسا، إلى تعقيد الأمور بالنسبة لهم.

هذا ما تشير إليه مديرة جمعية “أيام زمان” بالقول: “لدينا أشخاص اعتادوا على رؤية عائلاتهم كل ثلاثة أو أربعة أشهر، لكن خوفا من الوباء وتداعيات الإغلاق لم يتمكنوا من رؤية أحبائهم مرة أخرى. منهم من اعتبر ذلك أصعب من الحروب التي عايشها في حياته. هذا بالإضافة إلى أن العديد منهم فقد الاتصال بإدارات كانت تقدم يد المساعدة لهم. بعضهم وجد نفسه في الشارع، وآخرون لم تتوفر لديهم المواد الأساسية للعيش لأنهم لم يجددوا ملفاتهم في الإدارات المعنية”.

كما تشير مديرة الجمعية إلى أوجه القصور في علاج هذه الفئات السكانية الهشة أثناء الوباء، بالقول “لم تكن لدينا أقنعة. وكان من الصعب كسر عزلة هؤلاء المسنين من خلال زيارتهم في محل إقامتهم، كما أنهم لم يستطيعوا ملء استمارات الخروج للتسوق، مما عرض بعضهم لدفع غرامات مالية”.

من جهة أخرى، يرى أخصائي الشيخوخة ومدير مرصد الهجرات للشيخوخة في فرنسا، عمر السموألي، في تصريحه لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن الأزمة الصحية أعادت هوس التساؤل حول مكان الدفن؟ “هناك  مسنون ماتوا في فرنسا بسبب فيروس كورونا ولم تتسن إعادة جثثهم لدفنها بالقرب من أقاربهم. والأحياء منهم حاليا ينتابهم خوف قوي من أن يدفنوا وحيدين دون المرور من التعاليم الدينية الإسلامية”.

وهذا نفس الشعور الذي عبر عنه محمد، بالقول: “أن أموت وحيدا هنا شيء، لكن أن لا تستطيع عائلتي دفني في المغرب أمر لا أستطيع تخيله حتى، سيكون الأمر صعبًا للغاية وغير عادل”.

المسن مايزال معيلا

ويشرح أخصائي الشيخوخة أن نسبة كبيرة من المهاجرين المسنين، ورغم معاشاتهم الضئيلة، ما يزالون يبعثون ببعض الأموال إلى أسرهم القريبة أو البعيدة لمساعدتهم على مآرب الحياة.

ويتابع: “تلجأ مؤسسات الضمان الاجتماعي إلى اقتطاع أجرة دور رعاية المسنين من المعاش مباشرة، ثم تقدم الباقي للمسن وهو بدوره يبعث من ذلك المال القليل إلى أسرته في بلده الأم”.

وفي المقابل، يعتبر السموألي أن استعمال الفرنسيين لمصطلح “الشيباني” في دلالة على المهاجرين المسنين فيها حمولة ثقافية قدحية لا تمنح للمسن وقاره وحقه من الاحترام.

المصدر: سكاي نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *