هناك مكانان يمكن أن تدرس من خلالهما التحولات الظاهرة والخفية التي تطرأ على شكل وجوهر المغاربة. على مستوى الشكل يكفي النزول صيفا إلى الشواطئ لكي تشاهد علامات شتى أشكال العنف التي يعيشها المجتمع مجسدة على الأجساد، خصوصا الشباب. ضربات سكاكين في الرؤوس والظهور، ندوب شفرات الحلاقة على الأذرع، مما يدل على أن وتيرة العنف زادت في المجتمع. 

أما الأوشام فأصبحت عادية بفعل التأثير الكبير لمسلسلات أبطال كارتيلات المخدرات على منصة نيتفليكس. مثلها مثل صباغة الشعر التي أصبح يتفوق فيها الذكور على الإناث. أما السمنة فأصبحت هي القاعدة بسبب الأكل السيء المليء بالدهون والسعرات الحرارية، إذ ما تلبث عائلة أن تغرس مظلتها الشمسية على الشاطئ حتى تخرج أواني حفظ المأكولات ويشرع أفرادها في التهام المعجنات والعصائر والمشروبات الغازية قبل الاستسلام للنوم. 

أما على مستوى الجوهر فإن منصة نيتفليكس تمنحك فرصة معرفة ماذا يشاهد المغاربة كأفلام ومسلسلات، وبالتالي متابعة كيف تتطور ذائقتهم الفنية وتوجهاتهم النفسية والاجتماعية. 

وغالبا عندما تدخل المنصة يهجم عليك ترتيب المحتويات العشرة الأكثر مشاهدة من طرف المغاربة. وعادة ما تكون هذه الأفلام والمسلسلات تدور حول العصابات والمخدرات وسرقة البنوك والاغتصاب والاختطاف والجنس والخيانة والتجسس. فهذه هي المواضيع المفضلة لدى الجالية المغربية المقيمة في نيتفليكس. 

خلال الصيف الماضي كان المسلسل الأكثر مشاهدة في المغرب تدور قصته حول مجرم وسيم يختطف امرأة ويحتجزها لكي يجبرها على أن تسقط في حبه. 

هذه المرة استطاع فيلم “لا تنظر صوب السماء” Don’t look up للمخرج آدم ماكي أن يحتل الصدارة ضمن تصنيف الأفلام العشرة الأكثر مشاهدة في المغرب. 

الفيلم يلخص بطريقة ساخرة، ومخيفة في آن، هذا العماء البشري الإختياري والجماعي المرتبط بالمخاطر التي تحدق بالكرة الأرضية وتهدد الحياة على سطحها. 

القصة التي جسد أدوارها ليوناردو دي كابريو وميريل ستريب وجنيفر لاورنس بسيطة جدا، لدينا عالمان فضائيان يكتشفان أن كويكبا بحجم مدينة صغيرة يتجه صوب الكرة الأرضية وفي خلال ستة أشهر سيرتطم بها وستفنى الحياة. 

بمجرد تأكدهما من الخبر اتصلا بوكالة الفضاء الأمريكية التي أخذ لهم مديرها موعدا في البيت الأبيض. سوى أن الرئيسة ومحيطها لم يأخذا التهديد على محمل الجد، فكل ما كان يشغلهم هو الحملة الانتخابية التي كانت على الأبواب. محيط الرئيسة، المشغولة بشكلها أكثر من أي شيء آخر، مكون من جنرال ثلاث نجوم باع العالمان الأكل الذي يعطى عادة بالمجان لضيوف البيت الأبيض، مما يفيد أنه فاسد، ومستشار الرئيسة السمين الذي من طريقة حكه المستمرة لأنفه يظهر أنه مدمن كوكايين فضلا عن أنه نذل وثقيل الظل وسطحي يتابع أخبار المشاهير على شبكات التواصل الاجتماعي أكثر مما يتابع التقارير الأمنية. 

الفيلم لا يحاكم فقط السياسيين على أنانيتهم وسطحيتهم واستغلالهم لنفوذهم من أجل تسليم قيادة الأمور لملياردير تكنولوجيا الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي يتحكم في قرارات الرئيسة، بل إنه محاكمة لوسائل الإعلام أيضا، خصوصا التلفزيون الذي ينشغل بقصص مشاهير ومؤثري شبكات التواصل الاجتماعية ويرفض إخبار الرأي العام بما ينتظر الأرض من خراب. 

الرأي العام أيضا يحاكم في هذا الفيلم، فلفرط استهلاك التفاهات والعيش على الأخبار الكاذبة والقصص البائسة أصبح الرأي العام مبتذلا مدمنا على الرداءة، يفضل استهلاك جرعته اليومية من الدعاية السياسية الجوفاء والمحتويات السخيفة على سماع خبر يتعلق بمصير الكرة الأرضية. حتى أن هذا الرأي العام المبلد الحس صدق دعاية الحزب الحاكم التي تنصح الناس بعدم رفع بصرهم إلى السماء حتى لا يروا الكويكب القادم وينخدعوا برواية العلماء الذين كل همهم، حسب الحزب الحاكم، هو تخويف الشعب. 

كما يظهر الفيلم جشع الملياردير المتحكم في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ما يوازي في الواقع بيل غيتس أو مارك زوكربرغ أو ريتشارد برونسون تقريبا، خصوصا عندما استغل هذه المأساة لكي يسوق لماركة شركته بإطلاق صواريخ باتجاه الكويكب ما لبثت أن عادت إلى الأرض بمناطيد تحمل علامة الشركة بحيث ضمن مشاهدة مليارات البشر لعلامته التجارية. 

وعوض أن يتم الحديث في وسائل الإعلام عن الخطر المحدث الذي يواجهه كوكب الأرض بسبب هذا الكويكب أصبح الحديث يدور حول المعادن الثمينة التي يتوفر عليها هذا الكويكب القاتل والتي يمكن لسكان الأرض استغلالها. 

وهي إشارة لكل المليارديرات الذين يستفيدون من الاحتباس الحراري والتلوث والكوارث البيئية والجوائح التي تضرب البشرية، ففي الوقت الذي يموت فيه الناس نرى كيف تتزايد ثروات هؤلاء المليارديرات كل سنة.  

وقمة جشع هذا الملياردير هي عندما باع البيت الأبيض تكنولوجيا متطورة عبارة عن أجسام روبوتية يمكنها أن تحط فوق سطح الكويكب وتفجره. وهي التكنولوجيا التي تبث فشلها فلم يتبق له وللرئيسة سوى مغادرة قاعة العمليات والالتحاق بالسفينة الفضائية التي أعدت لنقل حفنة من المليارديرات المحظوظين نحو كوكب جديد. 

وبنظري فملياردير الذكاء الاصطناعي في الفيلم يجسد دور المسيح الدجال الذي خدع الناس بإقناعهم أنه أصبح بمستطاعه بفضل تحكمه في خوارزميات تطبيقات هواتفه التكهن بالمستقبل وحتى بالطريقة التي سيموت بها الناس، وإذا كان هذا الدجال قد أصاب عندما تكهن بطريقة موت الرئيسة الأمريكية عندما قال لها أنها ستموت بسبب حيوان سيلتهمها، فإنه أخطأ عندما تكهن بأن العالم الفضائي الذي أشاع خبر الكويكب سيموت وحيدا، فقد ماتت الرئيسة فعلا في الكوكب الجديد بعدما حاولت مداعبة حيوان بدائي معتقدة أنه أليف فقضم رأسها وافترسها في الحين، بينما مات العالم محاطا بأفراد عائلته مطمئنا بعد عشاء أخير وصلاة جماعية، في إشارة إلى أن خلاص البشرية لن يكون سوى بالإيمان والخضوع التام للإرادة الإلهية، وأن العائلة هي أهم شيء في نهاية المطاف. 

الفيلم استعارة لكل المخاطر التي تتهدد البشرية والتي لا نقوم إزاءها بشيء سواء كانت احتباسا حراريا أو خطرا خارجيا أو جائحة، وهو صرخة أمام هذا الاستهتار العالمي بمصير الكرة الأرضية.  

يعطي الفيلم نهايتين، نهاية الأفراد الذين يلوذون بالعائلة والإيمان ويقدرون الصداقة، ونهاية الجشعين الكذابين الذين يخفون الحقائق عن الناس ويفضلون الخلاص الفردي عبر الفرار داخل مركبة فضائية نحو كوكب جديد لبداية حياة جديدة يستمر فيها الدجال في التحكم فيهم 

بعدما قادهم إلى كوكب يجهلون كل شيء حول شروط العيش فيه مستمرا في إصدار نصائحه لهم بعدما التهم ديناصور الرئيسة الأمريكية قائلا لهم بخبث : لا تداعبوا هذه الحيوانات. 

ولعل الدرس البليغ الذي ينطوي عليه الفيلم هو أن الدول وصانعي السياسات العمومية عليهم أن لا ينخدعوا بالدجالين الذين يستطيعون بالدعاء والمكر والخداع إقناع الإسكيمو بشراء الثلاجات، وأن يحذروا من صناع المحتويات التي تبلد أحاسيس الناس وتقضي على ذكائهم وقدرتهم على التمييز بين الخير والشر، لأنه ليس أخطر على الحاكمين من حشود فاقدة للقدرة على الإدراك، خصوصا حاسة إدراك المخاطر، إلى درجة أن الخطر، كما هو الحال اليوم مع جائحة كوفيد، يكون داهما وواضحا لكن الناس يفضلون الانسياق وراء نظرية المؤامرة والتفسيرات السهلة لأسباب ومسببات هذه المخاطر.  

وكما قال الروائي خوسي سراماغو “الأصعب من العمى هو أن تكون الوحيد الذي يرى”.

رشيد نيني

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *