الزميل يونس الخراشي رفقة نوال المتوكل
الزميل يونس الخراشي رفقة نوال المتوكل

حاورها: يونس الخراشي

 

بداية، ما هو الإحساس الذي شعرت به وأنت تجدين نفسك الفتاة الوحيدة، بعمر لا يتجاوز 22 سنة، ضمن البعثة المغربية إلى أولمبياد لوس أنجليس 1984؟

كان عمري، في تلك الأثناء، بالضبط 21 سنة. وكان الوفد المغربي مكونا في كليته من الذكور، ومن ست رياضات إن لم تخني الذاكرة. كان بيننا، في ما أذكر، الأخ مصطفى النجاري ضمن الموفدين عن الدراجة، فضلا عن رياضيي الملاكمة، وألعاب القوى، وكرة القدم، والجيدو، والتنس، والمصارعة أيضا.

استقبلنا الملك الحسن الثاني، يرحمه الله، بالقصر الملكي لدرب السلطان (الدار البيضاء). وكان الوفد يتوفر على لباس موحد، إلا أنا. هل لأنهم نسوا بأن ضمنهم فتاة؟ أم لأمر غير ذلك؟ لست أدري. في كل الأحوال، فقد اتصل بي الحاج محمد نودير، يرحمه الله (رئيس الجامعة الملكية المغربية لألعاب القوى حينها)، وقال لي:”شوفي أشنو تلبسي ليك، راكي مغاديش تمشي للقصر بكوستيم كحل”.

وهكذا وجدت لي بدلة تخصني، ودخلت مع الوفد. وما جعلني أشعر بالراحة هو أن الملك، يرحمه الله، حينما تحدث إلينا، أعطاني الانطباع بأنه يتوجه إلي شخصيا بخطابه، سيما وهو يقول لنا:”إن شاء الله ستذهبون سالمين غانمين، وإن شاء الله ستحصلون على نتائج طيبة. ولابد واحد فيكم أو وحدة فيكم (سيحقق نتيجة مميزة)”. عندها بالضبط، وإذ تحدث عن المؤنث، قلت إنه يخاطبني شخصيا.

وبينما كنت أقف في الخلف، فقد شُقَّ لي طريق نحو الأمام عند سماع الملك يؤنث. وقيل لي:”زيدي لقدام، راه كيهضر معك. زيدي”. ولئن كنت أشعر ببعض الضغط في تلك الأثناء، فإن سماعي ذلك الخطاب قلب كياني كله. قلت لنفسي بما أن الملك تحدث معي وعني، فهذا يعني بالضرورة مسؤولية مضاعفة. وبالتالي، “يتعين علي أن أركز، وأعد نفسك جيدا”.

في تلك الأثناء، ألم يخصك الملك بأي حديث جانبي؟

كلا، لم يفعل. كنا نقف أمامه في صف نصف دائري، وأمامه ميكروفون يتحدث من خلاله. كان معنا، حينها، سي عبداللطيف السملالي، وزير الشباب والرياضة، يرحمه الله، ومحمد جسوس، الكاتب العام للوزارة. 

تذكرتهما لوحدهما، لأنني، في ذلك الحد من العمر، حتى وإن كنت بتجربة متوسطة، فلم أكن أعرف بالضبط ما تعنيه اللجنة الوطنية الأولمبية، والجامعة الملكية لألعاب القوى، وغيرها. فكل ما في الأمر أنني كنت، مثل آخرين، أحب رياضة معينة، وأتدرب، ولدي رغبة في أن أبرز فيها. 

في وقت لاحق، وبدافع من روح المعرفة والاكتشاف، بدأت أدقق في الأمور وأفهم طبيعة الأشياء ومفهوم المؤسسات. بدأت أقول لنفسي:”أنا مشيت جريت تمة، ولكن، شكون داني تمة باش جريت تمة؟؟ إذن ولابد شي واحد داني لتمة؟”. وحين بدأت البحث، فهمت أن الأمر يتعلق بهيآت منظمة تسهر على كل صغيرة وكبيرة.

كنت قد أتيت، حينها، من الولايات المتحدة الأميركية، حيث كنت تدرسين في جامعة إيوا. وقضيت فترة إعدادية بالمغرب، قبل التوجه نحو لوس أنجليس مع الوفد المغربي. ترى كيف مرت فترة الاستعداد في المغرب؟

كنت ذهبت إلى الولايات المتحدة إما في دجنبر 1983 أو يناير 1984. وبينما أجريت كل استعداداتي في المغرب، فلم يكن ينقصني سوى بعض الاحتكاك. فلم يكن معي، هنا في المغرب، مئات الفتيات من مستواي، أو أفضل منه، أو أقل بعض الشيء. فقد كنت باستمرار الأولى، حتى إنني، في بعض الأحيان، وحين أراني منفردة بالمركز الأول، أخفف من سرعتي، تفاديا للإجهاد.

هناك، في الولايات المتحدة، كان معي المئات، بل قل الآلاف من الفتيات اللواتي يفقنني مستوى، مما جعل احتكاكي بهن شديدا للغاية. ولئن كنت أجريت معظم تداريبي بالمغرب، فقد صقلت استعداداتي بأميركا، حيث المنافسة القوية يومية، مما يجعلك تتحسن إلى أن تحطم رقمك الخاص.

وفي تلك الأثناء بالتحديد تلقيت نبأ مفجعا، يتمثل في وفاة والدي يرحمه الله. 

كان ظرفا عصيبا جدا.

أي نعم، فقد توفي والدي، يرحمه الله، أسبوعا واحدا بعد سفري. غادرت يوم السبت، وتوفي هو يوم السبت الموالي. وهكذا، وجدتني مجبرة على العودة إلى المغرب. لم يكن أمامي أي اختيار. صحيح أن الوزير السملالي ورئيس الجامعة طلبا من أسرتي بألا تبلغني بالخبر المفجع، على أساس أنني أحقق لوالدي رغبته في إتمام دراستي. غير أن الأسرة لم تستطع أن تفعل، إذ أوفدت إلي أخي شهرا من بعد ليخبرني بما حدث، في وقت كانت الوسيلة الوحيدة للتواصل الأسرع هي “التليغرام”.

كيف كان رد فعل مدربيك في أميركا حين قررت العودة إلى المغرب؟

كان لدي مدربان؛ أحدهما يهودي والآخر مسيحي، وكنت بينهما مسلمة. وحين قررت المغادرة، اجتمعا بي، وقالا لي:”كلنا لدينا إله واحد، وكلنا لدينا إيمان قوي. أما والدك فقد توفي، بل ودفن قبل أسابيع متعددة. فإن كانت لديك رغبة ملحة كي تصلي إلى مرادك، وتحققي حلم أبيك المتوفى؛ المتمثل في بلوغ الألعاب الأولمبية، وتكسبي الميدالية، فابقي معنا هنا. أما إن قررت العودة، فستضيع عليك المنحة، وسيتبخر حلمك. لك الاختيار إذن”.

ما كان ردك عليهما؟

قلت لهما رجاء أعطياني جوازي وتذكرة السفر. وردا علي بأنهما موجودان في الخزنة، وأنهما رهن إشارتي، شريطة أن أفكر لبعض الوقت. وحين فعلت، وعدت إليهما، ثم رجعا ليدققا في نقطي، إذ ساعداني كثيرا، فلم تكن الإنجليزية هي نقطة قوتي في الدراسة، بينما كانت نقطي في بقية المواد تتحسن باستمرار، أكدا لي أنه سيكون حراما في حقي هدر الفرصة وهدم كل ما بنيته بكدي وعرقي. وقالا:”من الأفضل لك أن تظلي هنا. نحن على يقين أنك ستفاجئين العالم”.

أليس ذلك بالضبط ما كان يريده الوالد يرحمه الله؟

تماما. تماما، هو كذلك. ورحمهما الله أيضا، لأنهما قدما لي الكثير من المساعدة كي أتعلم وأبرز.

بالنتيجة، كيف كانت الفترة التدريبية في المغرب؟

عدت في يونيو على ما أظن، فإذا بنا، في البيت، نقيم جنازة ثانية للوالد يرحمه الله. فما أن وصلت إلى المغرب حتى تصاعد الشجن، وتذكرت الأسرة المأساة، وتعانقنا، ورحنا نبكي بحرقة. 

ومع ذلك، فقد كان يتعين علي أن أركز على تداريبي. وبما أن مدربيَّ ظلا في أميركا، فيما المدرب الفرنسي، جان فرانوسا كوكار، الذي كان يشرف علي، غادر بدوره، فقد تدربت وفق البرنامج الذي وضعه لي مدرباي لمدة أسبوعين تقريبا. ثم التحقت بالوفد المغربي شهر يوليوز، حيث كان الاستقبال الملكي، ثم السفر إلى لوس أنجليس.

هذا يعني أنك أجريت تداريبك منفردة، أليس كذلك؟

نعم. فحين تصل إلى مستوى معين من النضج، تصبح “عينك ميزانك”. فأنت تعرف جسدك جيدا، وتستشعر المستويات التي يتعين وصولها، وتحس حين تصل إليها أو العكس. أي نعم، فللمدرب مكانته التي لا تعوض، بحيث يجسد الأب والزميل والصديق، وبنظرة واحدة فقط يستشعر ما تحس به، مثلما تستشعر ما يريده منك، غير أنني كنت بلا اختيار.

وكانت الدورة الأولمبية، حينها، ستشهد ظهور سباقات نسوية جديدة، ضمنها على الخصوص سباق 400 متر حواجز والقفز بالزانة ورمي المطرقة والماراثون. فقد كان المنظمون يعتقدون، من قبل، أن النساء لا يمكنهن المشاركة في هذه الأنواع الرياضية، وإثر نقاش مستفيض سبق دورة لوس أنجليس، تقرر السماح للرياضات بأن يشاركن في سباقي 400 متر حواجز والماراثون.

نوال: كوكاكولا مجانا في الصنابير

بما أنها كانت المرة الأولى التي ستشاركين في دورة أولمبية، ألم يكن عالمها مدهشا بالنسبة إلى شابة مثلك؟

كان مدهشا جدا. فرغم معرفتي بالسباق، ومشاركتي في عدة منافسات، غير أنني أصبت بالدهشة حال وصولي إلى القرية الأولمبية. فماذا عساي أقول؟ لقد كانت عالما وسط العالم. عالم وسط عالم. فحتى مشروب “كوكاكولا”، الذي عادة ما نقتنيه بمقابل، كنت تجد صنابير مبثوثة تتيحه لك بالمجان. فتجدني أسأل نفسي:”ما هذا؟ غير معقول؟ إذن خذ ما اشتهيت، واشرب، ثم انصرف”. 

وكذلك الشأن بالنسبة إلى الدراجات، التي وضعت في كل جانب، ليستعملها من يشاء بالمجان. أما إن أردت التنقل من رواق إلى آخر، فكأنك تغادر حيا من أحياء الدار البيضاء إلى حي ثان. ثم إن هناك مزيجا من الأجناس، يعيشون في جو عجيب ومثير من المحبة والتآخي، بلا ضغينة ولا مشاكل. عالم عجيب حقا. 

من حسن حظي أنني عدت، ثلاثين سنة في ما بعد؛ أي سنة 2017، إلى الرواق الذي قطنت فيه بلوس أنجليس، فضلا عن الغرفة التي نمت فيها. ولك أن تتخيل مشاعري. شيء لا يصدق. كانت زيارتي الثانية ضمن الوفد الذي عهد إليه النظر في ملف ترشح لوس أنجليس لاحتضان أولمبياد 2028 (وصلنا إلى حل بأن أعطينا دورة 2024 لباريس، ودورة 2028 للوس أنجليس).

كيف شعرت وأنت تعودين، بعد كل هذا الزمن، إلى المكان الذي عشت فيه حكاية أول ميدالية ذهبية أولمبية في تاريخ الرياضة المغربية؟

“منين شفت دكشي.. والله إلى دخت”. قلت لنفسي:”مستحيل”. لقد زرت الغرفة التي أقمت فيها. عجيب. عجيب. وشاهدت حتى الملعب الذي جرينا فيه. ورغم أنهم أزالوا الحلبة، وبدلت بملعب لكرة القدم الأمريكية، إلا أنهم سيعيدون الأشياء كما كانت لإجراء الألعاب الأولمبية لسنة 2028.

هل صحيح أن المكان الذي كنتم تقيمون فيه تابع لإحدى الجامعات؟

نعم، واسمه “يو إل سي إيه” (UCLA). وهو عبارة عن جامعة، حيث أُنْزِلْنا بإقامة الطلاب. وهنا طرح السؤال:”كيف سننظم أمورنا ومعنا فتاة؟ وفوق ذلك، فهي لا تملك مدربا ولا مدلكا ولا طبيبا؟ كيف سنفعل؟”.

وهكذا، فقد خصص لي جناح كامل، فيما وضع الرجال على اليسار من حيث كنت. وكان زائري اليومي هو المهدي فاريا، يرحمه الله (مدرب المنتخب الوطني لكرة القدم). كان يأتي ليزورني يوميا، ويتحدث معي بالبرازيلية، ويقول لي، دون أن أفهم كل شيء، بأنني سأربح، وسأتألق. 

وحين عبرت دور الربع إلى نصف النهائي، جاءني فاريا بإكليل من الورد، ثم فعل الشيء نفسه حين عبرت إلى النهائي. وما زلت أحتفظ، إلى اليوم، بساق وردة يابسة من ذلك الورد، وسط كتاب من كتبي، عبارة عن ذكرى لتلك اللفتة الإنسانية من رجل عظيم. 

والعجيب أنني حين فزت بالميدالية الذهبية لنهائي سباق 400 متر حواجز، وملأ الورد كل البناية، جاءني المهدي فاريا ليقول لي:”اليوم لن أعطيك الورد، فقد كنت الأول الذي جاءك به، والأول الذي تنبأ لك بالفوز. لقد آمنت بأنك ستتفوقين، والإكليل الأول هو الأغلى والأكثر قيمة”.

المرحوم الحاج نودير قال لي مرة إنه كان يحرس ابنته نوال طيلة اليوم والليلة. كيف كان ذلك؟

الله يرحمه. كان يجلس في بهو الجناح الذي أقيم فيه، حتى يطمئن إلى أن لا أحد سيزعجني. “مكاينش اللي يدوز، ولا يدير شي صداع، ولا يبسل”. يقول لهم إن عليهم أن يحترموا وضعيتي الخاصة، فيشرف على كل ما أحتاجه، ويوفر لي السكون المطلوب. 

ومن جهته، عبدالعزيز المسيوي، يرحمه الله، فضلا عن ابن عبداللطيف السملالي، وشخص آخر لم أتذكره الآن، كانوا يأتون في كل صباح، ليسألونني أي شيء أحب في وجبة الفطور، وما إن كانت لدي طلبات يمكن تلبيتها.

كنت مدللة الوفد في نهاية المطاف؟

(تضحك) هو كذلك. فقد قيل لي “سيدنا وصى عليك”، وبالتالي فلا ينبغي أن تصابي، لا قدر الله، بزكام، أو تعب، أو قلق. وبصدق، فقد كان الزاكي والحداوي والتيمومي يعتبرونني أختهم جميعا، ويحيطونني بالعناية من كل جانب.

ترى هل ساعدك هذا الوضع في تلافي الضغط قبل السباقات؟

كلا، فقد عانيت الأرق عدة مرات. لم أكن أستطيع النوم، بفعل الضغط. كنت أمضي ليالي بيضاء جراء الخوف، أراني فيها وكأنني أركض ببطء شديد. فقد كان المغرب كله ينتظر مني شيئا، فضلا عن أن الملك كلمني، وأعي أنني في حال أخفقت؛ على اعتبار أن السباق كله حواجز ربما تسقط إحداها أو تسقطك إحداها، فسينتهي كل شيء. 

ومما زاد حجم الضغط على عاتقي أنني كنت أعيش على وقع ذكرى سيئة وقعت لي سنة 1983، أثناء مشاركتي في أول نسخة لبطولة العالم لألعاب القوى، جرت في هيلسينكي الفنلندية. ففي تلك الأثناء، وكنا تسع سيدات يتعين أن تقصى منا واحدة فقط، لكي تصعد الأخريات إلى النهائي، قدرت حسابيا أنني لن أكون المقصية، وحدث أنني كنت من أقصيت. بين تسع سيدات، أقصيت لوحدي. 

وهكذا، بقيت تلك الذكرى السيئة عالقة في ذهني. بل إنها تحولت إلى حالة قلق ورعب، تلوح لي في كل مرة. وصرت أقول لنفسي:”إذا تكررت الواقعة، فستكون نهاية حياتي الرياضية”. 

قبل الوصول إلى السباق النهائي، كيف تعاطى الأمريكيون مع نوال المتوكل التي كانوا يعرفونها، وسبق لهم أن شاهدوها في عدة سباقات؟

بالنسبة إلى الأمريكيين، فقد كنت خلقت لديهم مشاعر مختلفة ومثيرة، حتى إنهم سموني “غزالة الصحراء” و”سيروكو” (طائر نشيط). فبين يناير ويوليوز، بعثرت لهم كل الأوراق الخاصة بسباقات السرعة. وهكذا كنت تستشعر لديهم السؤال التالي:”منين خرجات لينا هذه المسلمة؟”. ذلك أنني فزت على صعيد الجامعة التي درست بها، وفي كل السباقات من 100 إلى 200 متر و400 مستوية و400 متر حواجز، كما أنني فزت في سباقات القاعة، فضلا عن العدو الريفي. 

كانت المسابقات تجري أولا على صعيد الجامعة، ثم على صعيد الولاية، فعلى صعيد الجهة (ديستريكت)، حيث تجري ضمن 12 محطة، وبعدها تتسع لتمضي على الصعيد الوطني. وحين تتفوق، تحصل على ساعة صغيرة جدا كتبت عليها الأحرف الأولى لاسم الجامعة. ولكن الأهم، هو حفل التسليم. فهو حفل رائع جدا، حيث يقف جميع من في الملعب، ويذكر اسمك بصوت مرتفع تحت وابل من التصفيق. وهو ما حدث معي شخصيا في مناسبتين، فكان الاحتفاء كبيرا حين سلمت لي الساعة (ما زلت أحتفظ بها)، ثم حين سلمت لي “جاكيط” كتب عليها اسم الجامعة، ونوع السباق، على اعتبار أن الفوز لم يقع منذ حوالي مائة سنة بالنسبة إلى جامعتي.

حينها بالذات، قدر المعنيون بأنني مرشحة للفوز في الألعاب الأولمبية. ونتيجة لذلك، فقد التحق بي المدربان الأمريكيان إلى لوس أنجليس. 

في نهاية المطاف أصبحت محاطة بمدربيك؟

نوعا ما. فقد اتصل بي المدربان ليلة السباق النهائي. أخبراني أنهما يوجدان في لوس أنجليس، غير أنهما لا يملكان الاعتماد الذي يخول لهما الولوج إلى القرية الأولمبية. وشخصيا لم أكن أفهم المتعين فعله ليحصلا عليه، لولا أن أحدا ما، لم أعد أذكره، سمعني أتحدث في الموضوع، فأحضر لهما رخصة للعبور، ليلتحقا بي. 

ما الذي قدماه لك في تلك الليلة العجيبة؟

أول شيء سمعته منهما حين التحقا بي، قولهما:”نوال غدا يومك” (Tomorrow is your day). 

كان واضحا أن المدربين واثقان من فوزك، أليس كذلك؟

بالتأكيد. والدليل أنهما ظلا يلحان علي بأن الغد سيكون يومي، ويقولان:”نوال، ستربحين”. كان أحدهما اسمه بات مونيهن، يهودي الديانة، والثاني ران رينكو، وهو مسيحي. وكلما قلت لهما إنكما تهذيان، وما عليكما سوى النظر إلى العداءات الأخريات، سيما الأمريكية والهندية والرومانية، اللواتي تتميزن بطولهن، لتعرفا أنهن الأقرب إلى الفوز، إلا زاد إلحاحهما أكثر.

داخليا، ومع نفسك، هل كان لديك شك بالفعل، أم كان الأمر يتعلق بخجل المتواضعين، سيما أنك تألقت على الصعيد المحلي والجهوي وحتى الوطني بالولايات المتحدة الأمريكية؟ 

أي نعم تألقت، غير أن ذلك الشك لا يفارق الرياضي. ولعله هو ما يعطي للرياضة حلاوتها. ففي بعض الأحيان تقول لنفسك إنك الأفضل على الإطلاق، ولن يربح أحد سواك، وفي أحيان أخرى يحدث العكس، وهو ما يؤدي إلى صراع داخلي، ويشكل الفارق بين الفائزين والخاسرين.

ولعل ذلك الصراع هو الذي أصابك بالأرق؟

“ما عندي ما نتسالك”. وكنت حين أغفو أراني أهوي في بئر أو غار، أو أراني وقد أسقطت عشرة حواجز، أو أتخيل بأن كل آمالي ومتمنياتي تبخرت في لحظة، ثم أستيقظ متصببة بالعرق، وكأنني خرجت للتو من البحر. فأجدني أشهق بقوة، وأكرر:”أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم. هذا مجرد كابوس، وغدا سيكون يوم جديد”.

ولحسن حظي أن مدربي؛ بات وران، غرسا في روح التحدي، وجعلاني أمحو تلك الشكوك التي راحت تراودني. 

قلت إنك محوت كل الشكوك. هكذا، بتلك الكلمات فقط؟ أم أن الأمر لم يكن بسيطا؟

بل ذهبنا جميعا إلى قاعة خاصة بالتأمل في القرية الأولمبية، لم يكن لي بها أي علم. وهي قاعة بيضاء، أرضيتها بيضاء، والكراسي الموضوعة بها أيضا بيضاء. وهناك عرض علي مدربي سباقاتي وسباقات منافساتي من خلال أشرطة أعداها مسبقا.

كانا قد جاءا بحوالي 16 شريطا يخصني ويخص منافساتي. وشاهدناها لحظة بلحظة، مع التحليل اللازم لنقط القوة والضعف في كل منها. 

ثم ماذا؟

في النهاية، قالا لي:”والآن، نريد منك أن تستخرجي لنا نقطة ضعف واحدة تخصك”. وبعد لحظات صمت، قالا:”إذن، فأنت من ستربحين. هل هذا الأمر مفهوم؟ فلترسخيه في ذهنك”. ثم جاءا بكرسي، وطلبا مني اعتلاءه، على اعتبار أنه منصة التتويج لسباق الغد. وطلبا مني أن أصدح، وأنا فوقه، بالنشيد الوطني المغربي. 

كنت أنظر إليهما بذهول، وأقول لهما:”هل أنتما مجنونان وتريدان أن تجنناني أيضا؟”. فأجدهما يتحدثان بجدية كاملة، وبإصرار متعاظم. 

كان الهدف أن تدخلي السباق وأنت فائزة نفسيا، أليس كذلك؟

تماما. وطلبا مني أن أتخيل الحشود الجماهيرية في الملعب، وملايير المشاهدين عبر العالم، ثم أعلي الهامة، وأغني النشيد الوطني بكل فخر.

وما أن بدأت في أداء النشيد حتى أوقفاني، وقالا إنهما يريداني أن أزعزع جدران القاعة بصوتي. وهو ما استجبت له أخيرا، ودموعي تنهمر.

بكيت لأنني تذكرت والدي يرحمه الله، ولأنني قلت لنفسي لعلهما يسخران مني، فضلا عن أن تربيتي تخالف ما طلباه مني في تلك الأثناء. فنحن لم نرب على أن نقول لأنفسنا إننا الأفضل، ونحن من سيربح وليس غيرنا. في وقت كانا يلحان علي بأن أصرخ قائلة:”أنا الأولى، أنا الأفضل، أنا الفائزة”.

قطعا لم تنامي ليلة السباق، أليس كذلك؟

كلا، لم أنم ليلتي تلك.

كان وقتا بطيئا وصعبا، فكيف مرت ليلتك تلك؟

صعبة للغاية. فقد كنت أشعر، في بعض المرات، بالبرد الشديد، وأصاب برعشة، ثم أشعر بعدها بالحرارة تغزو جسدي، فيتفصد العرق من كل مسامي. وظللت على تلك الحال، أتقلب بلا نوم، إلى ساعات النهار الأولى.

هل تراني أكلت أم لم آكل شيئا، “شكون اللي عقل؟ والله ما عقلت”. كل ما أذكره أن وزني نزل إلى أن بلغ 45 كيلوغراما. ومع ذلك، “ربي يسر، والحمدلله”.

في الطريق من الإقامة إلى الملعب، ترى كيف عبرت تلك المسافة؟

كان معي الحاج محمد نودير يرحمه الله. وفي تلك الأثناء أخذ مني حذائي “وبقى كيقرا عليه”. كنا في “ميني باص” يؤمن الرحلات بين الإقامة والملعب، وطيلة الرحلة لم يتوقف المرحوم عن “القراءة” على حذائي. وحين بلغنا الحاجز الذي يتعين أن يتوقف عنده، أخذه مني مجددا وواصل “القراءة”. وقلت له عندها:”أسيد الحاج أش كدير؟ راه خصني نمشي”. رحمه الله، ووسع عليه.

ترى أي مشاعر خالجتك وأنت تبلغين ملعب التسخينات وتشاهدين منافساتك، وبخاصة جودي براون وكريستينا؟

كنت وحيدة في ذلك الملعب، في مقابل منافسات تتوفر كل واحدة منهن على فريق عمل من مدربين ومدلكين ومرافقين ذهنيين، وغيرهم. فالحاج نودير ذهب إلى الملعب بعد أن افترقنا عند الحاجز المؤدي إلى ملعب التسخينات، أما مدربي الأمريكيان فلم يكونا يتوفران على الاعتماد الذي يخول لهما الوجود معي هناك. وفي حال رجعت إلى شريط السباق، سترى أحدهما يعانقني عندما كنت أجري دورة شرفية عقب الفوز. وقد سلمني في تلك الأثناء ورقة صغيرة كتب عليها توقيتات العبور من كل حاجز، وما أزال أحتفظ بها إلى الآن، وقال لي:”صليت من أجلك كثيرا”.

وحدك إذن في ملعب التسخينات. فكيف تسنى لك أن تمدي نفسك بالتركيز اللازم بذلك السباق القريب جدا؟

نعم، كنت وحيدة تحت سياط الشمس. وتلك هي اللحظات الأكثر أهمية في أي سباق، بدون منازع. ففي تلك الأثناء بالذات حيث يتعين عليك أن تبرز نضجك، وقد صرت بمفردك، بعيدا عن مدربيك ومساعديك، وكل من تحتمي بهم. 

ففي بعض الأحيان يكون أحدنا كبيرا في العمر، وطفلا في عقله. وهكذا ينطلق في اللوم الصبياني، “لماذا تركوني وحيدا؟ ألم يكن يجدر بهم أن يظلوا معي لبعض الوقت؟”. مع أن المتعين في أوقات مثيلة هو أن يتوفر الرياضي على كل ما يلزمه، بحيث تكون حقيبته جاهزة باللباس والحذاء، والغيارات، وقنينة ماء محكمة الإغلاق، تفاديا لأي مساس بها، من يدري ما قد يقع؟ وليس هذا وحسب، بل يفترض في الرياضي أن يحكم عقدة الحذاء، ويتثبت من ذلك. فإن حدث، لا قدر الله، وفكت العقدة، وسقط الحذاء، انتهى كل شيء.

أي نعم تبدو هذه تفاصيل كثيرة ودقيقة للغاية، غير أن التركيز معها وعليها مهم جدا ومعقد في آن واحد. على اعتبار أنها قد تزعج البعض، وتسبب له في التشويش.

وجاءت اللحظات المهيبة والرهيبة في آن، وهي لحظة الإعداد الأخير للسباق. كيف كانت تلك اللحظات؟

حين أجرينا قرعة الحارات، منحت الرقم 3، في وقت منحت الأمريكية جودي براون الرقم 8. ويا له من حظ عاثر بالنسبة إليها، إذ كان صحافيو العالم كلهم غير بعيد عنها يحدقون فيها، والمصورون يفترشون الأرض ويصوبون كاميراتهم نحوها، حتى إنها بدت مذهولة، وبساقين ترتعدان، جراء وميض الكاميرات الذي لا ينتهي إلا لينطلق مجددا. وإذا بها تنطلق منهزمة نتيجة لذلك. 

يلاحظ أنك وضعت بدلتك الرياضية على رأسك وأنت تجرين آخر الإعدادات، فهل كانت أشعة الشمس حارة إلى درجة مزعجة؟

نعم، كانت الحرارة مفرطة للغاية، وأشعة الشمس مزعجة. وكذلك الشأن بالنسبة إلى نسبة الرطوبة، التي كانت عالية. “السما كانت طايحة لي فوق كتافي”، خاصة أن الملعب كان يغص بالجماهير التي أدت ثمن التذكرة لتعيش لحظات رياضية مبهرة.

ترى ما أول شيء خطر ببالك وأنت تقفين في خط الانطلاقة؟

أول ما خطر ببالي عند خط البداية والدي يرحمه الله. وقلت لنفسي:”إن يسر الله وربحت، فسأهدي فوزي لوالدي يرحمه الله، ولجلالة الملك الحسن الثاني، لأنه رضي عني، ودعا لنا، ودعا لي حين كنا نغادر”. 

أما حين أعطيت الانطلاقة، فقد أفرغت ذهني من كل شيء. فما أن استنشقت الهواء، حتى صرت في مستوى عال من التركيز. وحتى تلك الجماهير الحاشدة، التي تعد بعشرات الآلاف، لم أعد أسمع لها حسا؛ سواء أكان بتشجيع، أو تصفيق، أو تصفير، أو خذلان أيضا. 

كانت الانطلاقة الأولى خاطئة. وبالنسبة إلي، كنت أنا صاحبة الخطأ في الانطلاق. ورحت أقول لنفسي:”هذا مستحيل”. فرغم أنه كان مسموحا لنا، في تلك الأثناء، بخطأ ثان، إلا أن مجرد الوقوع فيه يحطمك تماما. فتركيزك يصبح مختلفا تماما عما كان عليه من قبل.

فكيف شعرت وأنت تكتشفين بأن الأمر لا يتعلق بك؟

حين كنا نرجع إلى مواقعنا، إذا بي أكتشف أنني لست من ارتكب الخطأ. فتنفست الصعداء، وقلت الحمدلله أنني لست المخطئة، ولكن علي أن أضاعف التركيز. فلئن كنت قد ركزت من قبل جيدا، فالآن صار يتعين علي مضاعفة التركيز.

الانطلاقة الثانية كانت جيدة، ورحت أتخطى الحواجز. وفي تلك الأثناء وجدتني أقول لنفسي:”ضاعت مني فرصة الفوز في الألعاب الأولمبية لسنة 1980، إذ كنت في لائحة المشاركين في دورة موسكو (المغرب قاطع، شأنه شأن دول كثيرة، الدورة المنظمة في الاتحاد السوفياتي)، وها هي الفرصة تتاح لي اليوم، وعلي استثمارها على نحو جيد. أي نعم، غدا مدبرها حكيم. غير أنني لست أعلم ما إن كنت سأواصل في ألعاب القوى، أو سأكون في هذه الحياة من الأصل. ولذلك، فهذه هي فرصتي. وعلى رأي مدربي، فإنه يومي، وإما هذه المرة أو لا شيء”.

حاولت أن أوازن جهدي بين الحواجز، يسارا ويمينا، على أن أميل يسارا عند كل مدار لكسب الملمترات والثواني. فالمتعارف عليه أنك كلما دخلت حارتك، وخطك، إلا وكسبت من الحيز ومن الوقت. ومن حسن حظي، حينها، أن قامتي القصيرة أعانتني في القفز على الحواجز بسلاسة، لأنها لم تكن عالية جدا. 

يلاحظ بالإعادة لمرات أنك ركضت بمرونة عالية جدا، فما السر في ذلك؟

هذا صحيح، ذلك أنني تلميذة السرعة، في حين أغلب من تركضن مسافة 400 متر حواجز جئن من رياضات أخرى مثل الجمباز وغيرها، أو جئن إلى التخصص مباشرة. أنا شخصيا كنت متطفلة على هذا التخصص، مثل كل اللواتي جئن إليه من 100 متر أو200 متر 400 مستوية. 

منافستي جودي براون الأمريكية، من جهتها، كانت صاحبة قامة طويلة للغاية، وبالتالي فقد كانت الحواجز بالنسبة إليها قصيرة جدا. وبينما يتعين عليك أن تمر على الحاجز وكأنك ستلامسه، فقد كانت هي تبتعد عنه، فتخسر الوقت، والمسافة.

على العموم، يفترض أن تقفز على الحواجز الأولى باليسرى، ثم حين تستقيم الخطوط توازن بين اليسرى واليمنى، على أن تكون دقيقا جدا. ومن هنا تظهر قيمة التداريب، ومغزى التكرار والمواظبة، بحيث يتمرن الرياضي على القفز برجليه معا، وفي كل الوضعيات، وبتقنية عالية.

حين تصل المدار الثاني، تشعر بتعب هائل. ففي تلك الأثناء، وبينما ترغب في التصاعد علوا مثل أي كنغر يقفز برشاقة، يجرك الحامض اللبني إلى الأسفل بضغط قوي، تحت ثقل جسمك. وكأن قدميك سمرتا على الأرض، ولم يعد بإمكانك أن تحملهما وتقفز مجددا.

ترى في أي لحظة بالذات تيقنت بأن الميدالية الذهبية صارت من نصيبك، خاصة وأنه أصبح بينك وبين منافساتك مسافة تقدر بخمسة إلى ستة أمتار؟

نعم، كان بيني وبينهن مسافة مهمة. وحين جاوزت خط الوصول، قلت لنفسي:”غير ممكن”. ولما رفعت عيني، إذا بي أجد اسمي وقد دون باعتباري الفائزة بالسباق، وصاحبة الرقم القياسي الأولمبي (54.61). لاحظت بأن المشجعين المغاربة يصرخون، بينهم عبداللطيف السملالي، وزوجته، والحاج محمد بنجلون ومصطفى الزكري وعبدالرحمن المذكوري، وشخص آخر اسمه فوزي، توفي هو الآخر يرحمه الله، وكان يشتغل في ديوان الوزير، فضلا عن عبدالعزيز المسيوي.

هذا الأخير، الذي كان يعاني شللا في رجليه، ويستعمل العكازين لكي يتسنى له التحرك من مكان لآخر، قال لي حينها:”حين ربحت السباق، رميت بالعكازين معا، وشعرت بأنني مشيت من دونهما”. تخيل معي هذا المشهد.

في تلك الأثناء، كان السملالي، يرحمه الله، يصرخ بأعلى صوته قائلا:”راه ربحتي”، فأسأله:”واش ربحت. باش عرفتيني؟ واش أنت متيقن؟”. ويكرر:”نعم، ربحتي، هاكي الراية، وسيري ديري دورة شرفية”. فأقول له:”ما يمكنش ندير دورة شرفية وأنا ما رابحاش. راني شفت جودي براون ربحات”. ويقول لي مجددا:”لا، أنت اللي ربحت، وغادي تمشي تعملي دورة شرفية”.

حتى ذلك الوقت، لم تصدقي بأنك كنت صاحبة المركز الأول، والميدالية الذهبية؟

شيء غريب. وحين أخذت الراية المغربية، وجدتها ثقيلة جدا ويصعب علي حملها. ذلك أنني كنت متعبة للغاية. وبعد لحظات شعرت بأن “الكوليزيوم” كله يصفق مندهشا، ومتسائلا عمن تكون هذه العداءة، ومن أي بلد هي، وأين يوجد “موروكو”، وكيف تسنى لها الفوز؟ 

ووجد المنظمون صعوبة في نطق اسمي، حتى إن المعلق البلجيكي، فليب لو، عن القناة البلجيكية، والذي التقيت به سنوات في ما بعد، حكى لي بأنه ظل يردد:”المغربية، المغربية، المغربية”، دون أن يتمكن من نطق الاسم. وبينما راح يبحث في الأوراق التي أمامه، تبعثرت كلها. ثم قال اسمي بطريقة غير صحيحة. 

يلاحظ أيضا، بالرجوع إلى نهاية السباق، بأنك كنت قريبة من السقوط، وكأنه سيغمى عليه، لولا أنك تمسكت بالأمريكية جودي براون. فما الذي وقع بالضبط في تلك الأثناء؟

كل ما هنالك أن الحامض اللبني فعل فعلته، بسبب العياء الكبير، فضلا عن الدهشة، وقوة المفاجأة. وكانت براون تقول لي حينها:”نعم، لقد ربحت. نعم، لقد فعلتها”. 

ثم بعد ذلك، وقد قمت بالدورة الشرفية، والتُقطت لي صور مع بعض المعجبين والمعجبات، وحصل بعضهم على توقيعي للذكرى، إذا بالمكلفين بالكشف عن المنشطات يحيطون بي، كي أرافقهم إلى مكان الاختبار.

قال لي أحدهم إنه يتعين علي أن أوقع لهم على وثيقة خاصة بالكشف، على أن يحصلوا مني على عينة، ستخضع للفحص، بعد ساعة من ذلك الوقت. 

بمعنى؟

معناه أنه يمكنني التقاط الصور والتوقيع على تذكارات، ومنح تصريحات صحفية، وغير ذلك، ولكن في حدود ساعة فقط. وأثناء ذلك كله كان المعنيون يحيطون بي، على سبيل الاحتراز.

طبعا كانت لديك فكرة مسبقة عن الموضوع؟

طبعا. فكلنا كان يعلم بأن هناك أشياء محرمة، ولا ينبغي تعاطيها. بل أكثر من ذلك، كنا نعلم جيدا بأن بعض الأدوية البسيطة، مثل “التقاطر” الخاصة بالأذنين أو العينين أو الأنف، ربما يكون من بعض مكوناتها ما يؤدي، في حال الفحص والاختبار، إلى ما لا يحمد عقباه، وبالتالي كنا نستشير أطباءنا في الموضوع، حتى لا نقع في المحظور.

كانت لحظات مثيرة جدا.

والأكثر إثارة ما سيأتي لاحقا. ذلك أنني، وبينما أنا أجري دورتي الشرفية على الملعب، ويحيط بي المكلفون بكشف المنشطات، إذا بأحدهم يأتي إلي ليبادرني بالقول:”ملك المغرب يريد أن يتحدث معك”.

كيف كان وقع تلك الكلمات في تلك اللحظة؟

ما أن سمعته يقول لي:”ملك المغرب يريد أن يتحدث معك” حتى شعرت بدوخة، وسألته:”ماذا؟”. كرر على مسامعي:”ملك المغرب، ملك المغرب”. وكان يحمل الهاتف، ويتدلى من خلفه خيط طويل جدا، بحوالي خمسين مترا في اتجاه أسفل المدرجات. “منين دوزوه لي، ترفعت”.

ماذا دار بينكما حينها؟

كل ما أذكره أنني ظللت أردد:”الله يبارك فعمر سيدي، الله يطول عمر سيدي”. وقال لي:”المغرب كله تهز.. راه الشعب المغربي كله في الشوارع.. كلشي فرحان.. وهدشي اللي درتي عمره يتنسى.. وهنيئا لك، وهنيئا لنا بهذا الإنجاز العظيم”. وأكتفي بترديد:”الله يبارك فعمر سيدي، الله يطول عمر سيدي”.

في تلك الأثناء، كان من يحيطون بي مندهشين، لا يفهمون ما أقول، ولا مع من أتحدث بالضبط. 

ثم جاء اللقاء مع الصحافة، أليس كذلك؟

تماما. جاء من يخبرني بأن علي الانتقال إلى القاعة المخصصة للإعلاميين، للحديث عن الإنجاز. وقلت لهم:”معذرة، فكل ما اشتغلت عليه طيلة الفترة الماضية هو التداريب الجدية والجيدة، تحضيرا لهذه المحطة المهمة، ولغاية الفوز. غير أن أحدا لم يخبرني أو يهيئني للحديث مع الصحافة. فلا يمكنني الحديث مع الصحافيين”.

وما زادني دهشة أنني، حالما غادرت الملعب، حتى وجدتني إزاء مئات من الصحافيين والمصورين في الانتظار. وإذا بي أقفل راجعة. 

إلى هذا الحد عجزت عن مواجهة الموقف؟

لم يكن ممكنا. فنفسيا لم أكن معدة للموقف. ولهذا أقول باستمرار إن نفسية الرياضي مهمة جدا. ولذلك، يتعين تحضيره، ليس فقط بدنيا، بل ونفسيا وعاطفيا أيضا، وبالقدر نفسه. والدليل على ذلك أنني شعرت بحالة “شلل” تفوق تلك التي شعرت بها حين ولجت حارتي قبل السباق. لم أعد أقدر على المشي. 

وبينما تقدم الوزير السملالي، قيل له:”رجاء، نريد العداءة. نريد البطلة فقط”. ثم إذا بهم يسألونني عن أشياء غريبة جدا، من قبيل:”ماذا عن الجمال وعن الصحراء؟ وهل لديكم تلفزيون؟ وهل لديكم رمال؟ وأين يقع موناكو؟”. وأجدني أصحح لهم:”موروكو، وليس موناكو”.

ثم بدأت أستشعر الثقة بنفسي، وانطلقت في الكلام. فرحت أرد على الأسئلة بالعربية والفرنسية والإنجليزية. وبدل أن يتوقف اللقاء عند ساعة من الزمن، إذا به تجاز الساعتين. ثم زرت “سي إن إن” و”إن بي سي” في محطتيهما المقامتين بالمقر الإعلامي للألعاب الأولمبية، ليستمر الحديث عن المغرب والعداءة المغربية التي أحرزت الميدالية الذهبية لسباق 400 متر حواجز.

بالنسبة إلى اختبار المنشطات، هل أجريته قبل أم بعد ملاقاة الصحافيين؟

لم أعد أذكر. بصدق. فقد كنت في عالم من الخيال، وأنتقل من مكان إلى مكان في دورة بلا نهاية.

وكانت ليلة أخرى بلا نوم؟

طبعا لم أنم تلك الليلة. وحين اتصلت بمدربي جان فرانسوا كوكان بفرنسا، اكتشفت أنه جن جنونه أكثر مني. وأذكر أنه سألني عمن هيأ لي وجباتي في ذلك اليوم، وعمن فتح قنينة الماء التي شربت منها. وقلت له:”اطمئن فرانسوا. فالحمدلله، كنت مؤطرة جيدا. ولا شيء لديك تخشاه علي”. ثم قال:”نوال، أنا أسعد رجل في العالم. هل تعلمين بأن “مونوفرار” (بادية جبلية فرنسية كنا نستعد بها في بعض الأحيان) انقلبت رأسا على عقب فرحا بإنجازك؟ زوجتي هيلين سعيدة للغاية. وقد كسرت شاشة التلفزيون نتيجة للجنون الذي أصابني فرحا بما تحقق. نحن سعداء بقدر لا يمكنك أن تتخيليه. 

ورحنا نبكي، أنا في لوس أنجليس، وهو وزوجته هيلين في “مونوفرار”.

هل كنت قد اتصلت بالأسرة في المغرب؟

كلا، لم نكن حينها نتوفر في بيتنا على الهاتف. فلم أتواصل مع أسرتي. وكنت أتساءل:”هل تابعت أمي السباق؟ هل شاهدني أخوتي؟ هل المغاربة تابعوني؟ يا ربي يكونوا باقيين فايقين، وشافوني. لست أدري كم الساعة الآن في المغرب”.

عندما بلغت البوديوم، وساعة التتويج، كيف كنت نفسيا؟ هل انتهت حالة الدهشة، أم كانت ما تزال مسيطرة على كيانك؟

أولا، هناك من تساءل:”من أي سماء سقطت هذه العداءة؟ وكيف تسنى لها الفوز بالميدالية الذهبية؟”. والحال أن الأمر لم يكن عبارة عن مفاجأة، إذ أنني بدأت ألعاب القوى سنة 1976، وعبرت من تداريب إلى أخرى، ومن منافسة إلى غيرها، حتى بلغت بطولة إفريقيا، ثم بطولة العالم، والألعاب الأولمبية.

وهكذا، راحت تلك السنوات ترتسم أمام عيني، مثل شريط يعبر في الذاكرة. وتذكرت، على الخصوص، بأنني حرمت من أشياء كثيرة عندما كنت طفلة ومراهقة، بفعل الصرامة في التداريب، والتغذية، وغيرها. وكم من عيد ديني وغيره لم أحضر مع أسرتي، للاحتفاء به. 

وحينها قلت لنفسي:”الحمدلله، أخيرا تحقق الحلم. وتوجت بالميدالية الذهبية”. ثم بكيت؛ بل بكيت كثيرا. وقلت لنفسي:”لو كان معي أبي، لكان لهذا الحفل شأن آخر”، ثم استدركت، وقلت:”ولكن باقية دار الله”. رحمه الله، فقد كان يحمل لي حقيبتي، ويحضر معي نهاية الأسبوع في التداريب. (تبكي بمرارة، وتترحم على والدها. ثم تواصل، بصوت متحشرج) وحين كنت على المنصة، تألمت كثيرا، وبكيت بمرارة. 

لم ينته كل شيء عند هذا الحد. فقد كان لعودتك قصة تحكى. أليس كذلك؟

نعم، ذلك أنه، وبينما عاد أعضاء من الوفد المغربي إلى البلاد، طلب مني الوزير عبداللطيف السملالي، يرحمه الله، الانتقال من القرية الأولمبية لأظل معه وزوجته في الفندق. غير أنني رفضت ذلك، وقلت له إني أحب أن أبقى في القرية الأولمبية، حيث يوجد أصدقائي وصديقاتي، والمحيط الذي أشعر معه بالسعادة.

لمن آلت الغلبة في الأخير؟

للوزير طبعا. فقد انتقلت إلى الفندق، وهناك أجرى معي صحافي اسمه الخوضي استجوابا هاتفيا، لفائدة الإذاعة المغربية، من غرفة السملالي. وبينما طلبت العودة مع بقية الوفد، قال لي الوزير إن علي البقاء لفترة. 

كفلت بي، حينها، زوجته يرحمها الله، وهي سيدة فاضلة حملتني على جناحي الراحة، وعاملتني كما لو كنت ابنتها. قالت لي :”لدي ابنة اسمها أمال، وأنت أيضا ابنتي. ستظلين معنا، وسنعود معا إن شاء الله في طائرة أخرى”.

وبالفعل، فقد التحق بنا سعيد عويطة عندما وصلنا إلى باريس. أما وقد حطت الطائرة في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، فقد كان وقع المفاجأة كبيرا جدا. “ما فهمتش. ما فهمتش. ما فهمتش”، فقد كان كل ما حولنا معدا بشكل خاص.

وهكذا، قطعنا الطريق من المطار حتى المدينة في موكب خاص، ثم صعدنا سيارتين مكشوفتين، حيث جلست بجانب الأميرة لالة مريم، فيما جلس عويطة بجانب ولي العهد، حينها، الأمير سيدي محمد. ورحنا نجوب أهم الشوارع الكبرى، ونحيي الجماهير المحتشدة للاحتفاء بالإنجاز المغربي في الأولمبياد.

*نشر في صحيفة أخبار اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *