سعيدة شريف

 

يشكل التعليم والثقافة رافعتين أساسيتين لتأهيل السجناء بالمغرب، وتهييئهم لمواجهة الحياة بعد انقضاء مدة محكوميتهم، حيث تخرج من المؤسسات السجنية العديد من الباحثين والأكاديميين، ومنهم من أصبح يزاول مهنة التعليم وتستفيد منه المؤسسات المتخصصة، كما استطاع العديد من السجناء تنمية مواهبهم الفنية، وتنمية قدراتهم الإبداعية عبر الاحتكاك بالفنانين والكتاب والمثقفين، الذين زاروا العديد من المؤسسات السجنية في إطار أنشطة ثقافية وفنية وفكرية مختلفة.

فمنذ سنة 2002، تاريخ تأسيس “مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء” بالمغرب، أحس المسؤولون بأهمية هذه العناصر، ودورها الكبير في إصلاح السجناء وتهذيبهم وتغيير سلوكهم، ما حذا بهم إلى تنويع البرامج التكوينية التي تساهم في تنمية قدرات ومهارات السجناء، وتعينهم على تجزية الوقت “القاتل” بالنسبة إلى المحرومين من الحرية، وإحياء الأمل لديهم في المستقبل، من خلال تمكينهم من تكوين يعينهم على الاندماج في المجتمع والحصول على مناصب شغل بعد الخروج من السجن.

التعليم رافعة للإصلاح والتغيير

وخلال هذه السنة اجتاز أزيد من 900 سجين وسجينة امتحانات البكالوريا في 78 مؤسسة بعموم المملكة، وحصل ما مجموعه 248 سجين وسجينة عل شهادة البكالوريا خلال الموسم الدراسي 2020 / 2021، وهي أرقام غير نهائية، كما أخبرتنا “المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج”، لأن نتائج الدورة الاستدراكية لم تصدر بعد، فيما حصل سجين على شهادة الدكتوراه في هذه الدورة من ضمن 10 سجناء مستفيدين من برامج التعليم بالسجن، و20 في الماستر، و899 في الإجازة، و998 في التعليم الثانوي، و 1122 في الإعدادي، و753 في الابتدائي، و145 في التربية غير النظامية.

أما أرقام السنة الماضية 2020، والتي  كشفت عنها “المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج”، فقد بلغ عدد الحاصلين على شهادات جامعية عليا بالمؤسسات السجنية 52 شخصا، منهم 24 حاصلون على الشهادات الجامعية العامة، و24 عل الإجازة، و4 على دبلوم الدراسات العليا، فيما بلغ عدد الحاصلين على شهادة البكلوريا 288 شخصا، وعلى الشهادة الإعدادية 262 شخصا، والابتدائية 316، واستفاد من برنامج محو الأمية 4143 سجين وسجينة، وهو البرنامج الذي حقق نسبة نجاح تقدر بـ 91 في المئة، لأن رهان المؤسسة السجنية، كما قال مولاي إدريس أكلمام، مدير العمل الاجتماعي والثقافي لفائدة السجناء وإعادة إدماجهم، هو “سجن بدون أمية”، وهو برنامج تحرص من خلاله المندوبية مع وكالة محاربة الأمية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، ومؤسسات يابانية داعمة، على الارتقاء بمستوى السجين المغربي والقضاء على الأمية بشكل نهائي، ولهذا فهي ستعمل عل  تعميم إجباريته على كل نزلاء المؤسسات السجنية.

ومن أجل تحسين ظروف التعلم بالنسبة إلى السجناء ذوي المستويات الجامعية، قال مولاي إدريس أكلمام إن المندوبية عملت على “إحداث نواة جامعية، تتمثل في استوديو متعدد الاستعمالات بسجن سلا، يمكن المعتقلين من متابعة دراساتهم العليا عن بعد عبر طريقتين: إلقاء الأستاذ للمحاضرة مباشرة ونقلها إلى كل السجون، أو تسجيل المحاضرة وبثها مسجلة في أوقات تناسب المؤسسات السجنية بالمغرب”.

وأشار المسؤول إلى أن هناك تحولا نوعيا فيما يخص الآليات والوسائل التي تضعها المندوبية من أجل تسهيل وتيسير استفادة النزلاء من البرامج التعليمية في مختلف مستوياتها، ومن ضمنها التكوين المهني، الذي قطعت فيه المندوبية أشواطا مهمة بشراكة مع المكتب الوطني للتكوين المهني وإنعاش الشغل، حيث تم توفير تكوينات في تخصصات مطلوبة في سوق الشغل بشكل كبير، بما فيها التكوين الحرفي والتكوين الفلاحي.

ومن جهتهم، عبر العديد من السجناء المستفيدين من هذه البرامج التكوينية أثناء زيارة لنا لمؤسسة السجن المركزي بالقنيطرة قرب العاصمة الرباط، عن رضاهم عن هذه التكوينات والبرامج التعليمية، حيث قال أحد السجناء إنه دخل السجن وهو حاصل على الإجازة في شعبة الفلسفة، وبفضل البرامج التعليمية التي تتيحها المؤسسة السجنية حصل على البكلوريا من جديد ودرس القانون باللغة الفرنسية، وحصل على الإجازة في القانون الخاص، وهو حاليا يعد الماستر في علوم الإجرام، ويؤمن بأهمية التعليم في الارتقاء بوضعيته وبوضعية السجناء بشكل عام. والشيء نفسه عبر عنه طالب جامعي آخر بالقول بالعامية المغربية “قرا تخرج”، أي ادرس لكي تخرج من الأمية ومن السجن بمؤهل يساعدك على تغيير مسار حياتك حينما تغادر السجن.

وبشكل عام، إن البرامج التعليمية التي توفرها المؤسسات السجنية بالمغرب والتي تبدأ من محو الأمية إلى الدكتوراه، تؤتي أكلها بنسبة كبيرة، حسب العديد من الحقوقيين المغاربة، ولكن يظل العائق الكبير في ولوج سوق الشغل، هو شهادة رد الاعتبار، التي قد تأخذ سنوات حسب نوعية الجناية أو الجنحة لكي تسقط من “السجل العدلي”، الوثيقة الضرورية التي تثبت خلو سجل المترشح من أي سوابق، وهذا ما تعمل عليه المندوبية بالإضافة إلى العديد من المؤسسات الحقوقية بالمغرب من أجل ضمان مستقبل أفضل للسجين.      

الثقافة والفن بارقة أمل للسجناء

لم تكن البرامج الثقافية والفنية غائبة عن المؤسسات السجنية من قبل، ولكنها  ابتداء من سنة 2016، عرفت هذه البرامج تحولا جذريا من حيث نوعيتها وطريقة ومنهجية تنفيذها، إذ تم تجميعها في إطار برنامج موحد أطلق عليه اسم “برنامج كفايات”، والذي يتضمن مجموع الأنشطة، من ضمنها برنامج “الجامعة بالسجون”، الذي يهدف، كما قال مولاي إدريس أكلمام، مدير العمل الاجتماعي والثقافي لفائدة السجناء وإعادة إدماجهم، إلى “تمكين المعتقلين الحاصلين على شواهد جامعية (الإجازة والماستر) من التواصل مع نخبة من الأساتذة وتبادل الأفكار معهم حول مواضيع تحظى بالأولوية والاهتمام، وتعنيهم كمواطنين في وضعية صعبة يتطلعون من خلال التأهيل والتعليم إلى الاندماج الاجتماعي السليم بمقومات المواطن الفاعل والملتزم بالقانون”.

وقد نظمت منه ثماني دورات بمختلف المؤسسات السجنية بالمغرب، وحول مواضيع: المواطنة مدخل للاندماج، وتهيئ السجناء للإدماج أي دور للفاعلين المنتخبين، وأي دور في تحصين الذات وتغذية الروح، والصورة السجنية ومفهوم الإدماج، وتقوية القدرات الإبداعية للسجناء رافعة للإدماج، والحماية الاجتماعية للسجناء: تعزيز ودعامة لبرامج التهيئ للاندماج وضمان تحقيق إدماج فعلي وحقيقــي، وظاهرة العود: أية حلول؟ ثم القيم المجتمعية وتأهيل النزلاء للإدماج، وهي الدورة الثامنة التي نظمت في شهر مارس الماضي.

ومن بين البرامج الثقافية الأخرى، هناك برنامج “المحاضرات العلمية” المعد من قبل المندوبية العامة للسجون بشراكة مع “الرابطة المحمدية للعلماء” وبدعم من المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي، المخصص لتأهيل السجناء وتنويرهم في المجال الديني على أسس سليمة وبناءة ووفق مفاهيم صحيحة، الغاية منه محاربة التطرف والتزمت، وتكريس فضيلة التعايش السليم والاختلاف البناء واحترام الآخر. هذا إلى جانب اللقاء الوطني لفائدة السجينات الذي يهدف إلى مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي، والمقاهي الثقافية داخل السجون، التي تستضيف شخصيات ثقافية وفنية معروفة وطنيا من أجل خلق لقاء تواصلي مباشر مع النزلاء. وقد انطلقت هذه المقاهي كمرحلة تجريبية بالسجن المركزي بالقنيطرة خلال سنة 2017، ليتم تعميم التجربة انطلاقا من سنة 2018 بافتتاح إحدى عشر مقهى ثقافيا إضافيا، وذلك لتمكين السجناء من التفاعل في المجال الثقافي مع نخبة من المثقفين والأدباء، وخلق دينامية ثقافية داخل السجون، وترسيخ التثقيف كآلية أساسية للتهيئ للإدماج.

ولتشجيع السجناء على الإبداع تم فسح المجال لهم لممارسة هواياتهم كالرسم، وتم وضع جدران السجن رهن إشارة السجناء الموهوبين، الذين أبدعوا في تقديم جداريات فنية، كما تم إشراكهم في مسابقات داخل السجون وخارجها، وفاز المتميزون منهم بجوائز في العديد من المسابقات، كان آخرها مسابقة في موضوع “جائحة فيروس كورونا المستجد”، ومسابقة في الكتابة الإبداعية لتشجيع النزلاء على الإبداع وتفريغ الضغوطات النفسية، واستثمار أمثل لوقت الفراغ، حيث تم إصدار مجلة “دفاتر السجين” التي تضم العديد من مساهمات نزلاء ونزيلات السجون بالمغرب، وتخصيص إذاعة مستقلة للسجناء تحمل اسم “إذاعة إدماج” الهدف منها فتح قنوات التواصل بين السجناء والعالم الخارجي، وهي تبث برامجها كمرحلة أولى لفائدة نزلاء “السجن المحلي عين السبع1 “، وسجينات “السجن المحلي عين السبع 2 “، و”ومركز الإصلاح والتهذيب عين السبع” بالدار البيضاء.

وهناك من السجناء من أصدر كتبا تم طبعها من طرف المندوبية، كما قال السجين )أ. ف(، المحكوم عليه بـ 15 سنة سجنا، والذي يقضي وقته في الرسم والكتابة، والاستفادة من أوراش الفنون التشكيلية، والمسرح، والذي صدر له كتاب بعنوان “ولادة جديدة”، وقال إن البرامج التي تقدم لهم في المؤسسات السجنية تمكن السجناء من تنمية مواهبهم، وتمكنهم من تحقيق ذاتهم، والتعبير عن مكنوناتهم.

وفي السنوات الأخيرة انخرطت العديد من المؤسسات الثقافية والفنية الرسمية وغير الرسمية مع مسؤولي هذه المؤسسات، في وضع برامج تدعم السجناء وتفتق قدراتهم الإبداعية للخلق والابتكار في مجالات مختلفة، من مثل السينما، حيث أصبح للسجناء منذ سنة 2018 مهرجان سينمائي، هو “مهرجان عكاشة للفيلم” المنظم بمركز الإصلاح والتهذيب عين السبع بالدار البيضاء بشراكة مع كل من جمعية “حلقة وصل سجن مجتمع”، وجمعية “سقالة”، كما تم تزويد المؤسسات السجنية بربوع المملكة بمكتبات، تتلقى باستمرار هبات من الكتب بمختلف أصنافها من الجمعيات والمؤسسات، بل وحتى شخصيات، سبق لها المرور من تلك السجون في زمن الاعتقالات السياسية بالمغرب، من مثل الكاتب المغربي والسفير السابق بالشيلي، عبد القادر الشاوي، الذي قدم قبل أشهر رفقة جمعية “الآداب المترحلة”، التي ترأسها الناشرة نادية السالمي، هبة من الكتب تتمثل في 5 آلاف كتاب من مجالات متنوعة وباللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية، وزعت على مختلف المؤسسات السجنية بالمغرب، حتى يستفيد منها نزلاء هذه السجون.

 

                              

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *