رشيد نيني 

 

من يريد أن يفهم جيدا ماذا يحدث للمغرب بمواجهة عواصم أوروبية وغربية عليه أن يعود للكتاب القيم والهام للمؤرخ شارل أندري جوليان الذي عنوانه “المغرب في مواجهة الأمبرياليات” Le Maroc face aux impérialismes 1415-1956. 

في هذا الكتاب يشرح المؤرخ بالوقائع والتواريخ كيف تكالبت القوى الإمبريالية عبر التاريخ على المغرب لتمزيقه إلى أشلاء فيما بينها. 

هذه الإمبرياليات التي لا تستطيع اليوم أن تهضم أن المغرب الذي استعمروه بالأمس ليس هو مغرب اليوم، وأن البلد استطاع بعد 65 سنة نيل استقلاله التحول إلى رقم صعب في المنطقة. 

عندما نراجع دروس التاريخ نكتشف أن الدول التي كانت مجتمعة حول طاولة مؤتمر مدريد سنة 1880 لكي تقسم كعكة المغرب هي نفسها المجتمعة اليوم كل بطريقته طمعا في اقتسام الكعكة نفسها، خالقة للمغرب “بوطزطاز” في المحافل الدولية.

المستجد الوحيد أن ألمانيا التي ظلت تعتبر نفسها الخاسر الأكبر في هذه الوزيعة قررت هذه المرة أن تخرج رابحة.

مهدت فرنسا لاستيلائها على المغرب بإبرام سلسلة من الصفقات السرية مع الدول الإمبريالية التي كانت تنافسها، فاعترفت في نونبر 1902 بحق إيطاليا في استعمار ليبيا مقابل اعتراف هذه الأخيرة بمصالح فرنسا بالمغرب، ثم وقعت مع بريطانيا اتفاقية سنة 1904 أطلقت من خلالها يد هذه الأخيرة في مصر مقابل غضها الطرف عن احتلال فرنسا للمغرب، كما نص الاتفاق بأن يكون شمال المغرب من نصيب إسبانيا.

وعلى عكس الصورة التي رسمتها الصحافة الفرنسية للسلطان المولى عبد العزيز، والذي كانت تقدمه كشخص مولع باللعب، فإن هذا الأخير كان شوكة في حلق الإدارة الفرنسية ورفض البرنامج الموسع للإصلاحات الذي اقترحه عليه الفرنسيون، واستعمل الورقة الجرمانية حيث اعتبرت ألمانيا الاتفاق الودي بين فرنسا وإنجلترا موجها ضدها، فنشأ ما يسمى في التاريخ “الأزمة المغربية” بسبب المنافسة الفرنسية الألمانية على المغرب والتي كانت قد اشتدت وتحولت إلى واحدة من أخطر الأزمات السياسية الدولية التي سبقت الحرب العالمية الأولى. فأعلن الإمبراطور غيوم الثاني يوم 31 مارس سنة 1905 في مدينة طنجة استقلال المغرب وأكد عزم ألمانيا على حماية مصالحها فيه.

بعد ذلك تم توقيع عقد الحماية واتهمت ألمانيا كلا من فرنسا وإسبانيا بخرقهما لمقررات الجزيرة الخضراء، وأرسلت بارجة حربية إلى أكادير، ثم طالبت بضرورة انسحاب القوات الفرنسية والإسبانية من المغرب، فخيم بذلك التوتر والقلق على أوربا خوفا من اندلاع حرب ألمانية فرنسية لا يمكن توقع نتائجها، وبتدخل من بريطانيا في تحفيز فرنسا للدخول في مفاوضات مع ألمانيا تم بذلك إبرام اتفاقية برلين في 4 يونيو 1911 نالت بموجبها ألمانيا جزءا من الكونغو وأطلقت يد فرنسا في المغرب.

لكن علاقة ألمانيا المصلحية بالمغرب لم تبدأ في القرن التاسع عشر بل قبل ذلك بمائتي سنة.

وإذا كانت ميركل تستعمل مدينة بريمن وبرلمانها كأداة للضغط على المغرب بقضية الصحراء، إلى الحد الذي رفع فيه برلمانها راية البوليساريو احتفالا بيوم تأسيس هذا الكيان الذي أعلن الحرب ضد المغرب من جهةٍ واحدة قبل أشهر، فإن هذه المدينة الألمانية عرفت المغرب منذ سنة 1878.

مدينة بريمن الألمانية كانت أول مدينة يتوجه إليها السفير بنسليمان ممثل السلطان مولاي الحسن الأول من أجل عقد صفقات تسليح الجيش المغربي بالمدافع الألمانية المصنوعة بهذه المدينة التي كانت أول مدينة تسعى لعقد اتفاقية تجارية مع المغرب في القرن 17.

وبعدها أرسل السلطان جد بنهيمة، نائب دار المخزن بمدينة آسفي آنذاك الطيبي بنهيمة، لعقد صفقة تسلح ثانية.

هكذا أصبح لألمانيا نفوذ قوي داخل المربع الملكي بفضل القنصل الألماني طاطنباخ الذي نجح في اقتناص أول اتفاقية تجارية مع المخزن سنة 1890، وصار بفضل شخصيته المتفردة أقرب ما يكون إلى مستشار السلطان منه إلى سفير.

طبعا هذا التقارب لم تكن تنظر إليه فرنسا التي كانت تحتل الجزائر بعين الرضى. فسعت بكل قوتها الدبلوماسية والعسكرية إلى توقيع اتفاقية سرية مع إسبانيا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا تتنازل بموجبها هذه الدول لها عن المغرب لكي تقوم بتقسيم جغرافيته من الشمال إلى العمق الصحراوي بين فرنسا وإسبانيا، بحيث تحتل إسبانيا الصحراء والشمال بموجب عقد يشبه عقود التدبير المفوض للاستعمار. مع إبقاء منطقة طنجة دولية. ومنذ توقيع تلك الاتفاقية انحسر النفوذ الألماني داخل المغرب.

الإقصاء الأوروبي لألمانيا من المغرب بشكل خاص ومن أفريقيا بشكل عام من طرف فرنسا لم تهضمه برلين، لذلك فمنذ الثمانينات وهي تحاول أن تجد لها موطئ قدم في المغرب لكن المقاومة الفرنسية للتواجد الألماني كانت شرسة. ولعل جيل السبعينات يتذكر كيف كانت التلفزة الرسمية الوحيدة تبث أسبوعيا ساعة من مباريات البطولة الألمانية البوندسليغا إلى درجة أننا كنا نعرف أسماء اللاعبين الألمان أكثر من معرفتنا بأسماء أي فريق آخر، وكان بول بريطنير المدافع ولاعب وسط الميدان في فريقي آينتراخت براونشفايغ وبايرن ميونخ مشهورا في المغرب بجواربه الهابطة دائما وحركاته المتقنة التي كانت تثير الإعجاب لشبهه باللاعب عبد المجيد الظلمي. أما اللاعب ليتبارسكي فقد كان ساقاه المفتولان حديث المجامع، هو وحارسا المرمى الأسطوريان شوماخير ومايير، واللاعب هاسلير والرومينيغي وغوبيش ذو القامة الفارهة وصاحب الضربات الرأسية المسددة بدقة.

كنا نعرف أسماء كل النوادي الكروية الألمانية ونجمع صور لاعبي هامبورغ وبروسيا دورتموند، وفيردر بريمن، وبوروسيا مونشنغلادباخ، وشتوتغارت وفولفسبورغ.

وفي بداية التسعينات مع دخول البارابول اكتشف المغاربة القنوات الفضائية الألمانية وأصبحوا مدمنين على قمر أسطرا حيث قنوات زيفنزيفن المتخصصة في الجنس.

في الرباط كان معهد غوته الوحيد الذي يعلم اللغة الألمانية قبل أن يفتح المعهد فروعا أخرى.

وقبل هبوب رياح الربيع العربي على المغرب كان أغلب الشباب الذين صاطت لهم هذه الرياح في آذانهم يجتمعون كل ليلة في بار معهد غوته بالرباط يأكلون البيتزا ويشربون النبيذ والجعة وينظرون لإسقاط النظام، تحت أسماع مخبري دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية التي كانت تعتبر بار معهد غوته منجما للمعلومات والأخبار بالنظر إلى كل الشخصيات متعددة المشارب التي كانت تأكل وتشرب هناك.

ألمانيا لديها إحدى أهم وأذكى وأنجب المدارس الاستشراقية في العالم. فكتب ومؤلفات المستشرقين الألمان حول العرب وبلدانهم وثقافتهم ودينهم هي إحدى أكثر الإنتاجات العلمية دقة ومعرفة.

ومنذ إقصاء ألمانيا من كعكة مؤتمر مدريد قررت أن تنكب على دراسة هذا العالم الإسلامي كمقدمة لبسط نفوذها عليه بشكل ناعم، وقد نجحت في هذا المسعى بشكل ما، وأصبحت معاهد تدريس لغتها تفتح أبوابها إلى جانب معاهد تدريس الإسبانية والفرنسية، وأصبح غوته يجاور سيربانتيس وديكارت. وبالموازاة مع ذلك أصبحت ألمانيا خامس زبون للمغرب بعد فرنسا وإسبانيا وأمريكا والصين، فيما نعتبر نحن ثالث زبون لألمانيا بإفريقيا بعد مصر وجنوب إفريقيا. نستورد منها حوالي 1.9 مليار أورو فيما نصدر لها حوالي 1.3 مليار أورو.

ورغم العلاقات التجارية والمشاريع المشتركة بين البلدين في مجال الطاقة الهيدروجينية الخضراء والطاقة الشمسية، لم تتردد ألمانيا التي تترأس مجموعة العمل المالي (فاتف)، المعنية بوضع معايير لمكافحة غسل الأموال ومكافحة الإرهاب، في حشر المغرب في اللائحة الرمادية، يومين على إخراجه من طرف الاتحاد الأوروبي من المنطقة الرمادية للملاذات الضريبية. 

واليوم تستعمل ألمانيا الدبلوماسية الطبية المتطورة لدعم توجهاتها السياسية، فالرئيس المصري السابق حسني مبارك كان دائم التردد على المستشفيات الألمانية، والرئيس الجزائري تبون ذهب إلى ألمانيا في حالة صحية متردية وعاد واقفا على قدميه، ولولا أن المغرب كان قد قرر تجميد علاقاته بالسفارة الألمانية بالرباط لكان طلب الجزائر إدخال زعيم البوليساريو لأحد مستشفياتها قد تم قبوله. 

واليوم نرى كيف خصصت الحكومة الألمانية ميزانية سنوية ضخمة لذراع إعلامي هو الدوتشي فيليه لمنافسة فرانس 24 وبقية الأذرع الإعلامية التي أطلقتها قوى عالمية مثل روسيا وتركيا والصين وإنجلترا باللغة العربية لمخاطبة الجمهور العربي والتأثير عليه.

وطبعا فالهدف من وراء كل هذه الميزانيات المرصودة للمؤسسات والمنصات الإعلامية الألمانية الموجهة للمغرب هو ممارسة الضغط للحصول على امتيازات تجارية واقتصادية، فالذي تغير في سلوك الدول الإمبريالية هو الشكليات أما الجوهر فظل هو نفسه، أي الاستعمار والنهب والابتزاز، مع تغليف ذلك كله بشعارات براقة تخفي بشاعة الهدف. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *