أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

انتهت جلسة الاستجواب مع الوكيل العسكري. تلتها مباشرة جلسة قاضي التحقيق، في الحجرة المجاورة، حيث وجدت الزميل السابق حمودي حجوب في انتظاري، وقد صار قاضي التحقيق العسكري..

جلست وبدأت الإجراءات الروتينية المتعلقة بإثبات الشخصية. ثم توقف ليسألني هل أريد ان نبدأ الاستجواب أم أتمسك بحقي في حضور محام. فأجبته: الحمد لله أني وجدت من يتحدث عن الحقوق. وإني متمسك جدا بهذا الحق، ليس لحاجتي إلى من يدافع عني، وأنت العارف. أحتاجه فقط لأعرف إخبار أسرتي ووالدتي وأطمئنهم على حالي. فمنذ أسبوع لا أعرف عنهم شيئا وأظن أنهم كذلك.

وأُقفل المحضر بتاريخه…. ووقع ووقعنا.

ثم انتقلنا إلى النقطة المهم:

-هل أنا معتقل؟

-نعم        

-لو تفضلتم، هل يمكنني أن أعرف السجن الذي ساودع فيه؟

-المناطق المحررة..

-لا علم لي بسجن في المناطق المحررة، ومنذ أسبوع وأنا مسجون في العراء بين الأشجار.

-قالوا إنهم بصدد بناء سجن لإيداعكم فيه، ومحكمة لمحاكمتكم في المناطق المحررة..

ضحكت وقلت، بسخرية غير متعمدة:

-يا لسعة صدركم! أتصدّقون هذه المسرحية الهزلية؟!

-بعض الاحترام، رجاء.

-لم أقصد الإساءة سيدي القاضي، ولكنكم تجلسون أمامي بصفة قاضي تحقيق، وستصدر حالا إن لم تكن جهّزت أصلا وثيقة عدلية اسمها أمر إيدا المدعو مصطفى سلمة سيدي مولود سجن كذا. ولما سألتكم عن سجني قلت قالوا لي إنهم بصدد بناء سجن.

اعرف الوضع الذي هو فيه والحرج الذي يعانيه، ولم أشأ الضغط عليه، إنما أخبرته بأنهم سيوقعونه في مشكل، فمن اللحظة كل ما سيصيبني هو من مسؤوليته بصفته من سيوقّع قرار حبسي، وأنا مسجون في الخلاء، في أودية فيها ثعابين وعقارب ويحرسني جنود مسلحون بأسلحة رشاشة، لا حراس سجون.

رُفعت الجلسة. وعدت، في وقت متأخر من الليل، متعبا إلى شجرتي، لسان حالي يقول إن قيادة الجبهة لم تُبق من شيء فينا نحن البشر إلا أفسدته. وقد حان دوركم، أنتم الشجر. وقد حكم على واديكم بأن يصير سجنا، وعلى الشجرة بأن تكون زنزانة..

في اليوم التالي، وبينما كنت مستغرقا في قيلولة تحت شجرتي، أحسست بشيء سقط عليّ. رفعت رأسي لأتبين الأمر، فإذا هو حنش! نفضت ملابسي بخفة المرتعب لأبعده عني، فاختفى بين الصخور المجاورة.

رغم فزعي وغضبي لم أفكر في الشكوى، فما الذي سيحدث غير أن أُنقل إلى شجرة أخرى، وقد ألفت شجرتي. مهّدت تربتها لتكون منزلي.. هنا متكئي.. وهناك أرتب ملابسي، وهذه حفرة نار شايي وخارج الظل مُصلاي.. ولكن كيف سأخفّف غضب الشجرة، كي لا تعيد الكرة؟ وكيف سأخبرها بأني لم أخترها لتكون زنزانتي وبأنها أحسن حظا من أختها التي فرض عليها أن تكون حمّامي..أني تعبت من الترحيل.. وأني كلما ألفت شيئا انتُزع مني..

حراسي، الذين كانوا يمنّون النفس بأن تنتهي محنتهم، تَغير مزاجهم أيضا، بعد أن عرفوا أنهم صاروا أسرى معي، ولا فرج لهم إلا أن يفرج عني أو يتم إعدامي. فالجبهة لا تريدني أن ادخل المخيمات حتى ولو مكبّلا بالأغلال. ولن تسمح بأن يعرف أحد مكاني.

لكنهم كانوا أكثر رأفة بي من الشّجرة، فرغم أني بقيت معزولا، فإن رفاق الزنزانة أصبحوا يعاملونني بلطف. فبدت وجوههم المتعبة من دوام الحراسة والعيش في العراء أكثر بشاشة. ويلقون تحية السلام كلما مر أحدهم قربي. وحتى القائدان المرافقان لي من البداية، اللذان استُبدل أحدهما وحل محله نائبه، المهدي ولد بيها، لم يعودا يخفيان عدم رضاهما عن وضع السجّانين اللذين صيّرتهما الجبهة.

وللحكاية بقية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *