حاورته: حسنى أفاينو

 

الاستهلاك سلوك فطري، وهو من الضروريات في الدين الحنيف، لكن الإسلام سيجه بضوابط أساسية تميزت بالوسطية والاعتدال. ولعل الإنسان في زمن التغول النيوليبرالي بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى عقلنة استهلاكه والتحلي باليقظة والوعي اللازمين لتجنب أضرار سوء التدبير المالي من أجل حياة كريمة آمنة.

في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء ، يسلط رئيس المجلس العلمي المحلي لعمالة الصخيرات تمارة، لحسن بن ابراهيم سكنفل، الضوء على ظاهرة الإفراط في الاستهلاك ، والإنفاق غير الرشيد، لا سيما في شهر رمضان، مع بيان منهج الشريعة الإسلامية في التعاطي مع الاستهلاك وحكم الشرع في سلوك التبذير والإسراف .

1 – نلاحظ في رمضان ظاهرة الاستهلاك المفرط للمواد الغذائية بما يفوق باقي شهور السنة، الى جانب هدر الطعام، ما حكم الشرع في هذا السلوك؟

يقول الله تبارك وتعالى: “اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ” سورة إبراهيم الآية 32-34 .

كلمة ظلوم التي وردت في الآية الكريمة تعني شديد الظلم ، والظلم له مظاهر عديدة، ويتجلى الظلم فيما يخص التعامل مع النعم في التبذير والإسراف والاستهلاك المفرط.

فعندما نأتي إلى النظريات الاقتصادية ، نجد أن من مبادئها الأولى في النظام الليبرالي المبني على اللذة ، هو أن الموارد الطبيعية تتزايد حسب متوالية حسابية ، والحاجات الإنسانية تتزايد حسب متوالية هندسية ، بمعنى أن الحاجات الإنسانية تفوق الموارد الطبيعية، وهذا في ديننا ليس صحيحا ، لأن ربنا سبحانه خزائنه لاتنفذ، ، فأين الإشكال إذن ؟ .

الإشكال هو أن الإنسان في استهلاكه يسرف ويبذر، لدرجة أنه يلقي بالنعم في القمامة، فهو بذلك كافر بالنعمة.

فالآية الكريمة أوردت الظلم والكفر بصيغة المبالغة “إِنّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ” للدلالة على شدة ظلم الإنسان في تعامله مع النعم . ليس بمعنى الكفر مقابل الإيمان ، ولكنه الكفر مقابل الشكر.

ألم يضرب الله تعالى أمثال الأمم السابقة كفرت بأنعم الله فقال تعالى ” وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” سورة النحل الآية 112 .

فالجاحد بأنعم الله يُخشى عليه عاقبة هذا السلوك، فقد يحرم الأمن من الجوع والخوف، وهما كبرى المصائب التي تدمر الأمم والشعوب.

قال تعالى “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” سورة إبراهيم الآية 7 .

بذلك يكون التبذير و الإسراف من أكبر المفاسد الاجتماعية، وقد نهى عنهما الإسلام نهيا واضحا قاطعا، قال تعالى ” و لا تبذر تبذيرا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ” سورة الإسراء الآية 27 .

فالتبذير والإسراف كفر بالنعمة، والكفر بالنعمة مؤذن بزوالها، قال تعالى ” ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” الآية 53 سورة الأنفال، أي يغيروا ما بأنفسهم من الشكر إلى الجحود و الكفر بالنعمة.

رمضان هو شهر التربية والتزكية بامتياز، ومحطة للمراجعة، فيه نربي أنفسنا على الصبر والمصابرة، والتعود على ترك المباحات من أكل وشرب ومعاشرة زوجية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس طاعة لله وتقربا إليه وسعيا إلى تحصيل التقوى التي هي ميزان التفاضل بين الناس، قال تعالى :” إن أكرمكم عند الله أتقاكم “سورة الحجرات الآية 13.

وقال سبحانه: ”يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات” سورة البقرة الآية 183.

وإذا كان المسلم المؤمن بهذه المعاني مستحضرا لها وهو صائم قادرا على ترك المباح الحلال، فهو أقدر على ترك الممنوع الحرام، يمنعه إيمانه، وتمنعه حالة التقوى التي يعيشها وهو صائم.

وهذا يعني أن الصائم عليه أن يبقى بهذه الروح حتى أثناء الإفطار وبعده فيبتعد عن الإسراف في الأكل طول الليل بعد أن كان صائما طول النهار لأن ذلك مناف للمقصد الشرعي من الصيام ألا و هو الإقلال من الأكل، و الإقبال على الله بالعبادة.

2 – هل يعود هذا السلوك ربما الى خلل في فهم المقاصد الشرعية من الصيام؟ وماهي قواعد الاستهلاك من المنظور الشرعي، لا سيما في شهر رمضان؟

يجب معرفة أن من أهم المقاصد الشرعية من الصيام هو الإحساس بالجوع والعطش طول اليوم بما يجعل المسلم يحس بأحوال الفقراء والمساكين، ثم تربية النفس على الإقلال من الطعام، وكبحها عما تحب من المباحات حتى لا تطغى ويصبح المؤمن عبدا لشهوات نفسه ونوازعها، وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التوسط في الأكل ، فقال عليه الصلاة و السلام ” ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه” رواه الترمذي وحسنه.

إذن التوسط في الاستهلاك هو المطلوب في كل حال وعلى كل حال ، وهو سلوك حضاري معبر عن القدرة على التحكم في رغبات النفس سواء في رمضان أو في غير رمضان ، و هذا لا يعني أن يمتنع الناس عما ألفوه من عادات وطقوس في مجال الطبخ والطعام بمناسبة هذا الشهر الكريم، بل نبقى على هذه العادات مع الابتعاد عن الإسراف والتبذير لأن التبذير محرم شرعا ومرفوض طبعا.

3- ما هو الإنفاق المطلوب شرعا؟ وما خصوصية الإنفاق في رمضان؟

الإنفاق المطلوب شرعا و عقلا هو أن يوازن المرء بين مدخوله اليومي أو الشهري و بين ما ينفقه بعيدا عن الإسراف و التبذير و بعيدا أيضا عن الشح و البخل. قال تعالى و هو يصف عباده المؤمنين: ” وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا” سورة الفرقان الآية 67 ، أي وسطا واعتدالا.

فيما يتعلق بأبواب الإنفاق، فإن المطلوب من المسلم أن ينفق على نفسه ومن يعول بوسطية واعتدال، ثم يباشر أبواب الإنفاق الأخرى طلبا للأجر والثواب من الله، وإذكاء لروح التضامن والتكاثف بين أفراد المجتمع ،من خلال الصدقات والعطاء خصوصا في هذه الظروف الصحية المرتبطة بجائحة كوفيد-19 ، وما ترتب عنها من آثار اقتصادية واجتماعية أضرت بعدد كبير من الأسر، وكشفت حجم النعم التي كانت تنعم بها الإنسانية قبل الوباء .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *