أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

 

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

كانت المرة الأولى في حياتي التي أجلس فيها أمام الصحافة يوم عقدت ندوة صحافية في مدينة السمارة.. في الليلة التي سبقت الندوة، بتّ أفكر في المشهد في صباح الغد. ليس لأن لدي عقدة من مخاطبة الجمهور، لا. ما أرّقني هو الوضع الذي أنا فيه. فلدي رصاصة واحدة، وعلي أن أصيب بها على الهدف. فالفرصة قد لا تتاح مرة أخرى، والحمل ثقيل. فقد تركت خلفي آلاف الأبرياء يعانون، و قد بدا لي طيف في آخر النفق الذي تهنا في دهاليزه منذ عقود.. وقد لا يكون ضوءا حتى، لكننا غرقى..غ رقى.. وظل طائر يمر من فوقنا، هو يد تمتد لنجدتنا.

بالنسبة إلي، أنا الساذج الحالم المشحون بتراكمات سنين وسنين من الشحن الإيديولوجي والعاطفي، ليست المشكلة في الجبهة. فأنا واحد منهم وأعرفهم فردا فردا، من “الرئيس” الى حارس البوابة. ولا أطلب الإذن من أي مسؤول كي ألتقيه. بل أدخل عليه، إن لم يكن مشغولا، والسلام. لن يستطيعوا أن يمنعوني من فتح حوار صحراوي -صحراوي.. صدّقوني، لم أكن أتخيل أنهم قد يجرؤون! فالهمّ همّنا جميعا إن ارادوا. وإن لم.. فلنجمع سكان المخيم على صعيد واحد ولنقل تمايزوا. وليست لدينا أحزاب. نحن قبائل.. ويعرف كل الصحراويين أني سأكون ضمن الحشد الأكبر.. لأنني من أكبر قبيلة تعدادا، ليس تفاخرا، بل ألما وحسرة. فالقتيل هو رقم بشري ناقص، أما قتيلك فهو سقوط قطعة منك لن تعود.. نحن أكثر من يتقبل التعازي في المخيمات. فلم يعد في مرتفعات “لحمادة”، التي لم نعرفها قط، متسع لموتانا، لقد ملأناها!.. وستبقى محجا لنا لعقود أخرى إن نحن رحلنا عنها.. ففيها الأب والأم و الأخ والأخت والعم والخال..كل من هاجر أو هجر منا وعمره فوق العشرين لن يعود.. لن يعود يا ناس! اليوم نقول إن الصحراء صحراؤنا لأن قبور أجدادنا تشهد لنا. لكنْ ماذا عن ابني وابنك؟!.. بعد أقل من عشر سنين سيكون أجداد كل من في المخيمات مدفونين في الجزائر!..

كنت، حتى قبل انتهاء الندوة الصحافي، أظن أن  المشكل في المغرب.. وتخيلوا أن المغرب وافَق! وسمح لي بعقد ندوة صحافية يحضرها جلّ الطيف الإعلامي المغربي ووكالات الأنباء العالمية.. حتى في الحلم لم أكن أتصورها.. أنا القادم من القرية التي كنت سأسميها “القرية الظالم أهلها”، لولا أنه ليس لي لمن أشكو أهلي، ولن أدعوا عليهم، ولم تُبق الحرب منهم غير النزر.. لقد ظلمتموني..

فلم أكن أؤدي دورا في مسرحية، كما سُوق لكم.. لم أكن أقدم خدمة لا للمغرب ولا للجبهة ولا للجزائر ولا للصين.. كان يمكن أن أقول إني عدت الى أرضي ووطني والسلام.. كنت سأحصل على معاش ومنزل وهوية.. وقد يكتب لي أن أحج بيت الله، وأعود لأدفن في أرضي.. وأنسى أمي وأخي وأختي وخالي وعمي وصديق طفولتي وزميلي في العمل.. أنساكم أنتم أيها الطيبون، المغبونون، المتعبون، الحالمون الذين تنتظرون أن يخرج المغرب من الصحراء لتدخلوها أنتم، السذج، على ظهور الدبّابات الجزائرية!

كنت أريد أن أقول للمغاربة وللصحراويين على حد سواء: أوقفوا هذا العبث.

كنت، أنا الساذج الحالم، أرى أن الخطوة التي سأقدم عليها صباح الغد قد تُغيّر الكثير، إن كتب لها النجاح.. لذلك كان علي أن أنجح في إقناع الصحافيين الذين سيجلسون أمامي.. كان علي أن أجعلهم يقتنعون برسالتي ليساعدوني في إيصالها إلى العالم.

وغدا أحتاج أن اقنع الصحراويين والمغاربة، على حد سواء.. وما أصعبه من امتحان.. أن تخاطب عقلين متحاربين، صدّقوني، هو الحمق بعينه!.. ونمت على هذه الهواجس. وفي الصباح وجدتني أجلس وعشرات الكاميرات مسلطة علي، وأية كاميرات.. إنهم الصحافة. “خصّك ترد بالك” مع كلماتك وحركاتك وطريقة لبسك و… و… و…

وما زالت هواجس النجاح والفشل تتصارع في ذهني حتى وأنا جالس فوق الطاولة، والحشد في انتظار أن يفرغ أحد أقربائي الجالسين معي من الكلام ليسمعوا ما سيقول هذا المجهول القادم من القرية التي بيننا وبينها بندقية.

جاءني الفرج من السماء، ابن عمي في تقديمه وصفنا بـ”المرتزقة”! أورد في خطابه عبارة “مرتزقة البوليساريو”.. أنا الجالس جنبه مرتزق! ابنه في المخيمات مرتزق! إخوته، أخواته “مرتزقة! عقلنا مريض”.. غضبت وداريت غضبني.. فعلي أن أبلغ رسالة.

كنت قد حضّرت خطابا مكتوبا، لكنّ كلمة ابن عمي جعلتني أرتجل، ولم أشعر بالوقت حتى نبهني مسيّر الجلسة أني أمضيت ساعة في الكلام.. و أتمنى ألا أكون قد أشعرت السادة الصحافيين بالنعاس…

وللحكاية بقية.      

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *