أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

تصوروا أنّ سيد شرطة الجبهة يتجول في المغرب! فأبسط ما يمكن أن يعود به إلى أهله، إن كُتبت له النجاة، هو أن يكتشف خبايا هذا “الوحش المخيف”، الذي نسمع عنه و لا نراه. فـ83% من سكان المخيمات تقلّ أعمارهم عن 50 سنة. هم بعمر النزاع، تفتحت أعينهم على صورة المغرب -“الوحش”، الذي لا يعرفون عنه غير ما يسمعون..

ولا تحدّثوني عن الإنترنيت والفضائيات، فهي من اكتشافات القرن الحادي والعشرين، أو على الأقل بالنسبة إلينا في المخيمات.. فأول هاتف دخل عندنا في 2003، و كان هاتفا محمولا، و إلا ما كنا سنعرف الهاتف أبداً.. فجارتنا ولاية تيندوف، التي تبعد عن مخيمنا بأقل من 8 كيلومترات، وكانت تشاهد عجائزنا وشيبنا يتزاحمون في طوابير عند أكشاك هواتف شوارعها، يعزّ عليها أن تمد “كابل” اتصالات الى مخيمنا حتى الساعة.

أعود إلى أصل الحكاية.. سيد شرطة الجبهة موجود في مدينة السمارة. عائد إلى أهله وأسرته ودولته، وسوف يسأل.. وفي عرفنا نقول إن الغائب لا يسأل كم أمضى وإنما يسأل كم ((جاب من الغيبة)).

أمضيت شهرا ونصف الشهر في مدينة السمارة، محاولا أن أكتشف أين يختبئ هذا “الوحش” المرعب الذي كنا نسمع في مخيمنا أنه “يحتلّ” المدينة ويأسر أهلها. رأيت أنّ حياة الناس تسير بوتيرة عادية، بل وأفضل بكثير من تلك التي نعيشها. ولم يغنيني ذلك عن الاستمرار في البحث. حتى أنّي جبت أغلب براري ضواحي المدينة دون أن أعثر لـ”الوحش” على أثر.

لم أجد أثرا لـ”الوحش”.. الوحش غير موجود!.. لم أصدّق نفسي.. أصدق عيني، أم أذني؟!

تذكرت أني سيد الشرطة، والحمل ثقيل. علي أن أعود بنتيجة. فالناس ستسأل. بل ستشكّ إن عدت سالما معافى.. فلم يعد أحد قط من “الغابة المظلمة”. كل من ذهبوا من مخيمنا الى المغرب لا يعودون!..

ووجدتُني أمام خيارين لا ثالث لهما. إما أن اخدش عضوا مني بسكين، فأدمي نفسي في أحد أزقة السمارة وأحتفظ بالشريط إلى حين عودتي. و أقول لهم: احمدوا الله على سلامتي فلولا دعاؤكم لكنت من حظ كلاب براري المدينة، بعد أن بطش بي “الوحش” ورماني لكلابه.

كان خيار أن أرمي نفسي أمام سيارة أو أسقط من أعلى بناية خيار أكثر إقناعا بوجود “الوحش” لولا ما فيه من مجازفة، خاصة السقوط من مكان عال، فهو الصورة الدراماتيكية الأمثل والأقرب إلى التصديق. فما علّمونا عن “الوحش” أنه كان يأخذ الناس في طائرات هيلوكبتر ويرميهم منها أحياء!…

أما الخيار الثاني فهو الصدق مع الذات و مع ناسي وأهلي، فأنا سيد شرطتهم: عينهم وأذنهم، وعلي أن أكاشفهم بحقيقة ما شاهدت عيناي، فنحن أصحاب حق شرفاء لا يليق بنا التزييف.

كان الخيار الثاني الأقربَ إلى نفسي، التي تأبى النفاق. لكنْ لا تزال دونه ربوة. فكيف سأقنعهم بمجرد القول؟. كيف سأقنعهم بأن “الوحش” غير موجود خارج مخيلاتنا؟

اهتديت إلى فكرة أن أظهر لهم وأنا أتجول في مدينتي التي “حُرّرت” منها في العصور الغابرة بعد أن احتلها “الوحش”، الذي “يهلك الحرث والنسل”، وأقول لهم، عبر شاشات التلفاز، إنني هنا وإنني عائد إليكم. فهكذا، إن لم يصدقوا عدمَ وجود “الوحش”، أجنّب نفسي حرَجَ أن أوصف بالكذّاب إذا ما قلت لأحدهم إني ذهبت إلى “الغابة” وعدت منها سالما معافى.

لا تنسوا، فنحن في منتصف صيف 2010. قرّرت أن أعقد ندوة صحافية في المدينة، التي “حُرّرت” منها منذ قرابة 31 سنة.

ولا تغضب يا من تريد مني أن أصمت، فقد قلت “حُرّرت” و لم أقل اختُطفت. أتدري لماذا؟ لأفترض أنك، كما تدّعي، منبع الحرية، وأنك إنما رحمة بي أخذتني حينما أخذتني، أنا الصبي ذو العشر سنوات “محرّرا”، دون إذن من والدي، حتى لا أعيش عبدا في مسقط رأسي ومهد صباي، الذي يحتله “الوحش”.

يا الله، كم كانت هذه الصورة الوردية عن “محرّرينا” مضرب المثل لولا.. ما سيحدُث لاحقا….

ولحكاية بقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *