*محمد بوبكري
يؤكد أغلب المتتبعين للشأن الجزائري أن جنرالات الجزائر مصابون بخوف شديد من الحراك الشعبي، حيث كانوا يعتقدون أن “الجنرال القايد صالح” بتحايله وكذبه قد طواه بشكل نهائي، وأن جائحة “كوفيد” ستؤجله إلى أجل غير مسمى، بل إنه حتى إذا تم القضاء على هذه الجائحة، فإنه لن يعود بنفس القوة التي كانت له سابقا. ويبدو لي أن هلع الجنرالات من الحراك هو ما يفسر ترددهم في اقتناء اللقاح المضاد لهذه الجائحة، خصوصا أن هناك مؤشرات تدل على أن عودة الحراك القوية باتت وشيكة. وأرى أنه من باب الوهم قول إن الحراك قد توقف، لأنه لما نظم الجنرالات انتخابات رئاسية كان رد الشعب قويا، حيث كانت مقاطعة هذه الانتخابات واسعة، وعندما نظم الجنرالات استفتاء على دستورهم، كانت المقاطعة الشعبية أوسع. وهذا ما يؤكد أن المقاطعة ما تزال مستمرة، وأن الحراك الشعبي قادم لا محالة، حيث قد يترجمها بقوة.
ونظرا لكون الجنرالات يسعون إلى البحث عن حلول ترقيعية لتهدئة الحراك، فإن بعض السياسيين الجزائريين يؤكدون أن هناك قطيعة بين الشعب الجزائري والنظام العسكري، ما جعل الأول يعبر عن رفضه لكل مقترحات الثاني وإجراءاته، ولا يرى حلا لما تعيشه الجزائر من مشكلات إلا بزوال النظام العسكري الذي يجثم على صدره، وكاد يخنق أنفاسه، حيث لا يشعر الجزائريون اليوم بالاستقلال. فالعسكر هم امتداد للاستعمار في نظرهم، لأنهم استولوا على خيرات البلاد، وهربوا أموال الشعب إلى الخارج بهدف توظيفها هناك من أجل تأمين مستقبلهم خارج البلاد؛ فهم يفعلون ذلك لأنهم يعون أنهم سيغادرون مستقبلا السلطة مكرهين، ما يفرض عليهم تأمين مستقبلهم ومستقبل أبنائهم عن طريق نهب أموال الجزائريين وتهريبها إلى الملاذات الضريبية في جزر الكاريبي والسوشيل وغيرها من المناطق الأخرى التي تضمن لهم التصرف في أرصدتهم كلما احتاجوا إليها. كما أن المؤسسة العسكرية تمارس تسلطا كبيرا على الشعب الجزائري، الذي أصبح محروما من حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي جعل أغلبية الجزائريين عاجزين عن تأمين القوت اليومي لأسرهم. وهذا ما ينزع عن الجنرالات أية شرعية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
لقد لجأ الجنرالات إلى ضرب الحريات كلها، لأنهم يعتقدون أن هذه الحريات ستمكن المجتمع من التحول في اتجاه التوفر على تنظيمات مجتمعية متعددة قوية، ما يستعصي معه مراقبة الجيش للجزائريين، حيث سيتحول المجتمع إلى قوة أكبر من المؤسسة العسكرية ذاتها، ما سيوفر شروط زوالها. هكذا تمكن العسكر من الحيلولة دون تطور المجتمع الجزائري، الذي أصبح يدرك بعمق أن تسلط العسكر هو سبب فقره وكل مآسيه، بل إن بعض الجزائريين يعتقدون أن “هواري بومدين” هو من أرسى أسس الدكتاتورية العسكرية في الجزائر، حيث أنشأ ما سماه بـ”مجلس قيادة الثورة” الذي شكل سلطة تنفيذية وتشريعية في آن واحد. وسيرا على هذا النهج، فقد قام الجنرالات خالد نزار والعربي بلخير، وتوفيق محمد مدين وأفراد عصابتهم بتأسيس ما سموه بـ” المجلس الأعلى للدولة”، حيث تمكنوا من السطو على كل شيء في البلاد. وهذا ما جعل الشعب الجزائري يعي اليوم أن المؤسسة العسكرية هي الحزب الوحيد المسيطر على الجزائر منذ ما سمي بـ”استقلال الجزائر”، لأنهم يرون أن الجزائر ما تزال تحت وطأة جيش يشكل استمرارا للاستعمار الفرنسي. فأغلب أعضاء قيادة المؤسسة العسكرية الجزائرية الحالية تخرجوا من مدرسة عسكرية فرنسية أيام الاستعمار الفرنسي، كما أنهم انخرطوا في صفوف الجيش الفرنسي بعد تخرجهم، حيث حاربوا الحركة الوطنية التي كانت تكافح من أجل الاستقلال.
وبما أن “هواري بومدين” كان ضد روح الثورة الجزائرية الطامحة إلى الحرية والتعددية والديمقراطية، فقد لجأ إلى توظيف ضباط الصف هؤلاء في “جيش الحدود” الذي كان يقوده ووظفه صحبة “أحمد بن بلة” للاستيلاء على السلطة في الجزائر ضدا على إرادة آباء الحركة الوطنية الجزائرية. قد يقول قائل إن هؤلاء الضباط قد غادروا صفوف القوات الاستعمارية والتحقوا بحركة التحرير. لكننا نجد، في مقابل ذلك، أن المهتمين الجزائريين بدراسة هذه المرحلة التاريخية، يؤكدون أن هؤلاء الضباط لم يغادروا الجيش الفرنسي عن قناعة ذاتية، بل إنهم فعلوا ذلك بأمر من الإدارة الاستعمارية التي كانت تعي أنها راحلة، وأرادت أن يشكل هؤلاء عينا لها على ما يجري في الجزائر، حيث سيشكلون امتدادا لها بعد الاستقلال. ولقد استمر هؤلاء الضباط يتلقون التوجيهات من فرنسا إلى يومنا هذا، حيث قال الرئيس الفرنسي الحالي “إيمانويل ماكرون” إنه سيبذل قصارى جهده لمساندة “عبد المجيد تبون”. لكن ألا يعلم الرئيس الفرنسي الحالي أن “تبون” ليس رئيسا فعليا وأن الجنرالات هم الذين فرضوه، دون أي شرعية سياسية، ما جعله دمية في يد العسكر؟ هكذا، فإن المقصود بمساندة “تبون” هو مساندة الجنرالات خالد نزار وتوفيق و”سعيد شنقريحة”… وهذا ما يعد انحيازا للعسكر، ويشكل، في الوقت ذاته، انقلابا لفرنسا على مبادئها وتاريخها، حيث لم يعبر رئيسها عن مساندته للجزائر من أجل تحديثها وبنائها ديمقراطيا… إضافة إلى ذلك، فإن خالد نزار وتوفيق وأتباعهم تجمعهم علاقات وطيدة مع مختلف الأجهزة الاستخباراتية الفرنسية، ما مكنهما من إغلاق ملفات متابعتهما قضائيا، فعادا إلى الدولة الجزائرية التي أصبحا يوجهانها، فأصبحت تعتمد فتاواهما وقراراتهما في تدبير الأزمة الجزائرية الراهنة.
وإذا كانت المؤسسة العسكرية تبحث اليوم عن حلول ترقيعية لهذه الأزمة عبر تعديل الدستور أو تغيير الحكومة أو الحديث عن حل المؤسسات المنتخبة وتنظيم انتخابات تشريعية ومحلية وجهوية من أجل امتصاص غضب الشارع الجزائري، فإن الشعب الجزائري قد ألف هذه التحايلات والمراوغات، التي سبق له أن خبرها، واكتشف أن العسكر لا يريدون منها أي إصلاح حقيقي لأوضاع البلاد، بل إن الجزائريين صاروا يرددون بتهكم إن المهمة الأساسية الحالية للجنرالات هي التحايل من أجل البقاء في السلطة.
وما دام الجنرالات يكررون اللجوء إلى هذه الحلول الترقيعية التي هي مجرد أكاذيب لا تسمن ولا تغني من جوع، فإن هذا يدل على أنهم لم يفهموا أي شيء من الواقع الجزائري الجديد ومحيطه الدولي، وذلك لأنهم لا يمتلكون العدة الفًكرية لطرح الأسئلة الحقيقية لفهمه، واستعمال الخيال لإيجاد مخرج للأزمة الحالية. فالتعديل الحكومي لا يعني شيئا بالنسبة للشعب الجزائري، لأن العسكر قاموا عبر تاريخ الجزائر بتعديلات حكومية عديدة لم ينتج عنها أي تغيير. فالحكومة الجزائرية هي من تدبير العسكر، ما جعلها بدون شرعية، بل إنها في أعين الجزائريين عبارة عن هيكل فارغ، لأنها لا تعكس حقيقة المجتمع؛ فهي مجموعة من المتصرفين المفوضين من قبل العسكر، إذ لا علاقة عضوية لها بالمجتمع، الأمر الذي جعلها بعيدة عن المجتمع ومشاكله وطموحاته، كما أنها عاجزة عن تأطيره وإقناعه باقتراحاتها. وهذا ما أدى إلى انكشاف حيل العسكر، حيث تعروا، وأصبحوا وجها لوجه مع الشارع الجزائري، وانعدمت ثقة الشعب فيهم، وفي كل الكيانات الفارغة التي يخلقها العسكر لإلهاء الجزائريين، فأصبت المؤسسة العسكرية معزولة مع كياناتها الفارغة التي تولد ميتة. ويعني ذلك أن النظام العسكري في الجزائر قد استنفذ شروط وجوده.
وإذا كان الجنرالات يلوحون بإجراء انتخابات، فإن الشعب الجزائري يعي أن هذا الكلام هو مجرد تحايل جديد لن يفضي إلى إصلاح فعلي تنتج عنه مؤسسات منتخبة فعلية. هكذا، يبدو أنه لم تعد للمؤسسة العسكرية أوراق تلعبها من أجل إسكات الحراك. وهذا ما يدل على أن نظامها السياسي قد فقد توازنه، لأنه قد أصبح متجاوزا من قبل الأزمة السياسية الحالية التي صارت أكبر منه، ما يعني أنه بقدر ما يمضي الوقت بقدر ما تزداد الأمور تعقيدا.
وما دامت الأزمة الجزائرية الحالية هي أزمة سياسية، فإنه لا يمكن حلها إلا عبر حوار وطني، ينبغي إلى أن يتوصل إلى توافق حول نظام سياسي جديد يشكل أرضية لبناء جزائر جديدة حديثة وديمقراطية. ويعود ذلك إلى أن الجزائر في حاجة إلى تعاقد وطني، لأن الظروف قد تغيرت ولم تعد كما كانت عليه سابقا، ما أصبح يستوجب ذلك.
ونظرا لقوة الحراك الشعبي الذي أثبت فعاليته، لأنه سبق له أن كان وراء رحيل عبد العزيز بوتفليقة وأنصاره من عسكريين ومدنيين ومسؤولين آخرين، فقد أصبح واردا أنه قادر على شق صفوف الجيش وتعميق الصراعات داخل المؤسسة العسكرية، حيث سبق أن انقلب “القايد صالح” على بوتفليقة وجنرالات ومدنيين كثر. وليس مستبعدا أن يتكرر الأمر نفسه، لأنه إذا اشتدت الضغوط على الجنرالات، فإنهم لن يفكروا إلا في ذواتهم، حيث صاروا يتصرفون بمنطق “أنا ومن بعدي الطوفان”. وهذا ما يعني أنهم قد يفتكون ببعضهم بعضا…
هكذا يتضح أن العسكر هم داء عضال ضرب الجزائر، حيث صاروا يشكلون حزبا وحيدا يستأثر بكل شيء. وما دام التطور يفرض التخلص من نظام الحزب الوحيد، فإن الجزائريين أصبحوا يرفضون نظام العسكر الذي يشكل، في عمقه، نظام الحزب الوحيد الذي تدور مختلف أجهزة الدولة في فلكه. لذلك، فالتحديث والديمقراطية هما الحل.
*محلل سياسي