محمد أحداد

على امتداد أكثر من شهرين، نشرت “المساء” كرسي اعتراف مع محمد الشيخ بيد الله، أحد مؤسسي النواة الأولى للطلبة الصحراويين في الرباط، والذي تقلد، فيما بعد، مناصب كبيرة في الدولة.

حكى لي بيد الله تفاصيل كثيرة ظلت تنتمي دائما إلى مناطق معتمة؛ وكان في حكيه كمن يسير في حقل ألغام قابلة للانفجار في كل لحظة أو كمن يعالج جرحا بمشرط حاد. الحقيقة أنني كنت أتجنب، أقصى ما يمكن، أن أثير موضوع أخيه وذويه الموجودين في الضفة الثانية من الصحراء المغربية لأني كنت أعلم إلى أي حد من شأن ذلك أن ينكأ جراحا مفتوحة وموغلة في المأساة؛ وقد حدث، لهذا السبب، أن توقف التسجيل مرات كثيرة؛ كما حدث، مرات عديدة أيضا، أن اضطررت إلى توقيف الحوار حتى يلتقط الشيخ أنفاسه..

في الجلسة الأخيرة التي تزامنت مع تهديد البوليساريو بالعودة إلى حمل السلاح في أعقاب قضية الكركرات، وجه بيد الله رسالة مفتوحة إلى قيادات البوليساريو، خاصة تلك التي اقتسمت معه مقاعد الدراسة وعاش معها الأحلام الأولى للطلبة الصحراويين، وقلت له، إني سأوجه إليك سؤالا أخيرا قبل أن نقفل هاته الحلقات الطويلة: هل تريد أن توجه رسالة إلى أخيك في البوليساريو؟

توقف بيد الله طويلا عن السرد ورأيت، لأول مرة، دموعه التي كان يغالبها دائما، ولم نستأنف الحوار إلا بعد أكثر من ربع ساعة، وكان أن اكتفى بعبارة مقتضبة لكنها عميقة: أحب أخي إبراهيم كثيرا..

قد أكون اليوم نادما على طرح السؤال بتلك الصيغة، لكنه سؤال لا يعني بيد الله فقط أو أخاه، بل يعني مئات أو آلاف العائلات التي تمزقت بسبب عقد التاريخ ولعنة الجغرافيا وبسبب صراع يريد جيراننا، بكل الوسائل، تأبيده إلى آخر نزف. دموع بيد الله ليست دموعه وحده، وإنما هي دموع أجيال بكاملها.. حرم بعضها من زيارة عائلاته وحرم البعض الآخر من التعرف على مصائر أبنائه.. محنة بيد الله هي محنة عشرات العائلات التي كانت تكتب للجريدة راغبة في سرد مأساتها التي لا تنتهي مع “بؤس الجغرافيا” وأوهام السياسة..

ما لم يرد بيد الله أن أنشره في كرسي الاعتراف -وهنا أخرق بندا من الاتفاق معه- هو أن الجزائر كانت مسؤولة عن مقتل والدته في تندوف. ومرة أخرى، ليست والدة بيد الله من قتلت ومن اختفت.. إنما المختفون يعدون بالمئات، وتلك قصة تطول…

مأساة بيد الله هي مرادف أو تجسيد لمأساة جماعية مستمرة منذ عقود، ولا أحد امتلك الجرأة كي يتحدث عما حدث بالضبط، سواء في الأقاليم الصحراوية في لحظات السلم والحرب. وإذا كان بيد الله قد انتشل صفحات من النسيان، فإن الذين عايشوا الأحداث -ولاسيما العائدين الذين كانوا في معمعة الصراع، بل وكانوا صناعا للقرار في جبهة البوليساريو مثل الحضرمي وإبراهيم الحكيم.. – عليهم أن يخبروا المغاربة بالحقيقة، بتفاصيل مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب؛ أما أن تسود لغة الصمت بمبررات مختلفة، فإن الأمر لن يفضي سوى إلى رش الملح على جروح قديمة وأخرى جديدة…

في مذكرات تشرشل الشهيرة، كتب أن “السياسة ابنة كلب”، وإن كانت السياقات مختلفة، فإن “كلبية السياسة” هي وجه التشابه الوحيد، فما معنى أن تستمر الجراح في “الازدهار”؟ ألم يعش جزء كبير من هؤلاء الذين يلوحون بحمل السلاح كل يوم ضد المغرب في الرباط ودرسوا في مدرجاتها ويعرفون المغرب أكثر من غيرهم؟ ثم ألا يضيرهم في شيء أن آلاف العائلات تكتم آلامها وتلعق جراحها وتحمل في أحشائها جرحا غائرا ولا تسمح له بالولادة؟

السياسة فعلا ابنة كلبة.. ابنة كلبة حقيقية!.

*صحفي بشبكة الجزيرة 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *