عادل بن الحبيب

الفيسبوك يدمر الروابط الاجتماعية”، هذا ما قاله تشاماث باليهابيتيا وهو من المسؤولين التنفيذيين الأوائل في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، حيث انضم إليه عام 2007 بعد ثلاث سنوات من إنشائه، لكن غادره سنة 2011 ليصبح مستثمراً في مجال التكنولوجيا ، خلال مشاركته، يوم 11 ديسمبر 2017، في محاضرة حول “شرور وسائل التواصل الاجتماعي، والتحذير من آثارها على المجتمع”، بكلية الدراسات العليا في جامعة استانفورد الأمريكية.

إنك على الأرجح تمتلك هاتفا ذكيا، وحسابات على مواقع تويتر وإنستجرام وفيسبوك، وإنك على الأرجح وجدت نفسك في أكثر من مناسبة تتجاهل صديقا أو أحد أفراد عائلتك يجلس معك في نفس الغرفة لأنك منهمك تماما في عالمك التكنولوجي الاجتماعي الخاص.

هذه التكنولوجيا لن تجعلنا نشعر بالوحدة أو الملل أبدا، ولكنها –يا للسخرية– يمكن أن تجعلنا أقل انتباها لأقرب الأشخاص إلينا و في بعض الأحيان الى التجاهل التام لأعز و اقرب الناس إلينا.

على عكس الاختراعات السابقة التي أحدثت طفرة، كآلة الطباعة أو التليفزيون، فان هذه التكنولوجيا “دائمة الاتصال، ودائمة التمحور حول الذات” تهدد بتقويض بعض نقاط القوة الأساسية التي يمتلكها البشر والتي يحتاجون إليها للازدهار.

أحد اهم هذه التغيرات الأساسية أن الناس فقدوا القدرة على تحمل البقاء بمفردهم. فبمجرد أن يكون لدى أي شخص ثانية واحدة فقط من الفراغ سرعان ما يتجه ليمسك بهاتفه ، جميع الأبحاث تقول إن قدرة الأفراد على تحمل البقاء بمفردهم تتلاشى. وما يحدث هو أننا نفقد تلك اللحظة التي كنا نستغرق فيها في أحلام اليقظة أو في تأمل الذات، وينتهي بك الأمر وأنت تنظر إلى العالم الخارجي.

الأطفال على وجه التحديد يحتاجون إلى الإنفراد بأنفسهم شيئا ما، فهذه العزلة مطلب أساسي لإقامة حوار مع النفس. فالقدرة على البقاء مع نفسك واكتشافها هي أحد العناصر المهمة للنمو. لكن ما يحدث الآن أن الأطفال الصغار بدأ من عامين، أو ثلاثة أو أربعة أعوام– تتاح لهم وسائل التكنولوجيا التي تشتتهم وتحرمهم الاختلاء بأنفسهم تحرمهم من اللعب و اكتشاف العالم ، و هذا يجعل من الصعب عليهم إقامة علاقات إنسانية حقيقية.

أصبحت وسائل التكنولوجيا مَدْعَاة للهروب من التعامل المباشر، وإقامة العلاقات الاجتماعية، بادِّعاء الانشغال بها، وإن ضعْف هذه العلاقات وندرة القيام بالزيارات الاجتماعية، يضعف التحاور، وتبادل الخبرات والمشاعر، ويتم استبدال ذلك برسائل قصيرة: “كل عام وأنتم بخير، رمضان كريم، عظَّم الله أجركم، وغيرها“.

اللافت للنظر أن هذه الأجهزة حلّت مكان الأبوين ، لكثرة مكوث الأبناء أمام هذه الأجهزة والتفاعل معها. كثرة التعامل مع هذه الأجْهزة أضعف علاقة الأبناء بوالديهم، و تسبب بانتشار أمراضٌ نفسية بينهم؛ مثلا: الاكتئاب، وحب العزلة، والانطوائية، وتَقِل قابليته على قبول قيم المجتمع، وثوابت الدين، ويحل محلها قيم روّاد ومُستخدمي أجهزة التكنولوجيا.

بيَّنت الدراسات النفسية أن أكثر الأفراد تعرضا لخطر الإصابة بمرض إدمان الإنترنت، هم الأفراد الذين يُعانون من العزْلة الاجتماعية، والفشل في إقامة علاقات إنسانية طبيعية مع الآخرين، والذين يُعانون من مخاوف غامضة، أو قلة احترام الذات، الذين يخافون من أن يكونوا عُرْضة للاستهزاء، أو السخرية من قبل الآخرين، هؤلاء هم أكثر الناس تعرضا للإصابة بهذا المرض؛ وذلك لأن العالم الإلكتروني قدّم لهم مجالا واسعا لتفريغ مخاوفهم وقلقهم، وإقامة علاقات غامضة مع الآخرين، تخلق لهم نوعا من الأُلْفة المزيَّفة، فيصبح هذا العالم الجديد الملاذ الآمن لهم، من خشونة وقسوة العالم الحقيقي.

توصَّل فريقٌ بحثي أمريكي من جامعة “يونغ بريغهام” إلى أنّ قضاء وقت ممتع و سعيد مع الأهل والأصدقاء، يُقلّل من خطر الموت المبكر بنسبة 50%، وصرح أعضاء الفريق بأن العلاقات الاجتماعية القوية مفيدة للصحة؛ مثل: التوقف عن التدخين؛ حيث إن ضعف العَلاقات الاجتماعية يُوازي تدخين 15 سيجارة في اليوم، وإن تراجع الحياة الاجتماعية يُعادل معاناة إدمان الخمر، وتأتي أهمية العلاقات الاجتماعية في أنها تزيد في صحة الإنسان أفضل من اللقاحات التي تمنع الإصابة بالمرض؛ ذلك أن الإنسان خُلق كي يعيش مع غيره، وأن عزلته عن الناس تُسبّب له أمراضا نفسية وصحية، وجود العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأسرة يعني وجود المحبة، والعاطفة، والمودّة، وغيرها من الصفات الحميدة، التي تجعل الأسرة متماسكة ومترابطة. وخلص الفريق البحثي إلى أنه على الرغم من زيادة وسائل الاتصال والمواصلات، فإن المجتمع لا يعيش أفراده التواصل الاجتماعي.

ليس من الجيد أن يظل الناس متصلين بالإنترنت بشكل دائم ، ينبغي أن تكون هناك أماكن مقدسة لا يجوز فيها التواصل عبر الإنترنت، مثل مائدة العشاء التي تضم الأسرة، السيارة ، البيت ، المدارس،. فلنجعل هذه الأماكن لتجاذب أطراف الحديث؛ لأن المناقشات هي الترياق للعديد من المشكلات التي نتحدث عنها. فإذا كنت تتحدث إلى أطفالك، وإلى عائلتك، وإلى دائرة معارفك وأصدقائك باستمرار فلن تنشأ هذه الآثار السلبية بهذا القدر.

رسالتي ليست مناهضة للتكنولوجيا، وإنما هي مؤيدة للتحاور ومؤيدة للروح الإنسانية. علينا إعادة تقييم ثقافتنا السائدة التي تطالب بكل ما هو أكثر وأفضل وأسرع. نحتاج إلى تأكيد أهمية ما نحتاج إليه من أجل تفكيرنا وتطورنا وتحسين علاقاتنا بأطفالنا ومجتمعاتنا وشركاء حياتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التعليقات