في ظروف استثنائية تعمّ العالم ولم تعهدها البشرية؛ يستقبل المسلمون رمضان هذا العام بفرحة غامرة مشوبة بأسى بالغ: فرحة بمقدمه وهو ربيع أرواحهم، وأسى لما حيل بينهم وبينه من تلاقٍ للمؤمنين -باختلاف طبقاتهم أعمارا وأقدارا- ‏طوال لياليه المباركة في رحاب التراويح بمساجدهم العامرة بالإيمان، بعد أن عطلت الصلاةَ فيها -بمعظم بلاد المسلمين- إجراءاتُ حرب فيروس كورونا العالمية.

وفي هذا المقال؛ سنقدم نبذة تاريخية عن هذه الشعيرة المحببة إلى القلوب المؤمنة في شهر ‏القرآن، فنروي باختصار كيف ‏بدأت منذ فجر الإسلام، ونرى بعض ما اعتراها تاريخيا من مسحات اجتماعية كادت تخرجها من حيز ‏العبادات (الدين) إلى دائرة العادات ‏‏(التدين)، ونكشف جانبا من تأثرها بتاريخ المسلمين ومؤثراته المختلفة عقديا وفقهيا ‏وسياسيا ‏واجتماعيا، وكيف تعطلت أحيانا بعوامل مختلفة، ثم نعرض لذكر مشاهير من أعلام جمْعها أئمةً ومأمومين.

 ‏وسنكتشف -أثناء ذلك كله- أن كثيرا من ‏ممارساتنا المقترنة بهذه الشعيرة العظيمة لم تكن وليدة اليوم، بل ورثناها منذ حقب متطاولة.

محمد المختار ولد أحمد

تنوعت الطبقات والفئات الاجتماعية التي جاء منها أئمة التراويح عبر حقب التاريخ الإسلامي؛ فكان منهم أساطين العلماء والقراء الكبار، ‏ومشاهير الرحالة والتجار، وحتى ‏الفراشون العاملون في المساجد. فقد تولى إمامتها “شيخ ‏المفسرين” الإمام الطبري (ت 310هـ)، و”شيخ المقرئين” في ‏عصره أبو بكر ابن مجاهد ‏البغدادي (ت 324هـ)، و”شيخ الواعظين” الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ). وقد استمع ابن مجاهد هذا إلى صوت معاصره وبلديه الطبري -وهو يؤم ‏‏الناس في التراويح بمسجده ببغداد- فقال: “ما ظننت أن الله تعالى خلق بشرا يُحسن [أن] يقرأ هذه ‏القراءة”!!‏

أئمة مشاهير

ويذكر الإمام ابن عساكر (ت 571هـ) أن شيخه المقرئ أبا الفتح الأنصاري المقدسي (ت ‏‏539هـ) كان “يصلي التراويح في ‏مسجد علي بن الحسن” بدمشق. وأبو جعفر ابن الفَنَكي ‏الشافعي القرطبي (ت 596هـ) “كان الناس يتزاحمون على الصلاة ‏خلفه التماسا لبركته ‏واستماعا لحسن صوته، وحين مجاورته بمكة.. كان أحدَ المتناوبين في قراءة التراويح ‏برمضان…، ‏وقراءتُه تُرِقُّ الجماداتِ خشوعًا”.‏

ومن أئمتها الذين صار لهم شأن في التاريخ العلمي الإسلامي؛ شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني ‏‏(ت 728هـ)؛ فقد قال تلميذه ‏المؤرخ ابن الوردي المعري الكِندي (ت 749هـ) ‏‎‎في ترجمته له: ‏‏”وصليتُ خلفه التراويح في رمضان فرأيت على قراءته ‏خشوعا، ورأيت على صلاته رقة ‏حاشية تأخذ بمجامع القلوب”.‏

وكان من أئمتها الفقيه الرحالة الشهير المقدسي البشاري (ت 380هـ)؛ فقد حدثنا عن زيارته لليمن فقال ‏إن أهل عدن “يختمون في ‏رمضان في الصلاة ثم يدعون ويركعون، وصليتُ بهم التراويح ‏بعدن فدعوت بعد السلام فتعجبوا ‏من ذلك”.

الحبر اليهودي

ومن أئمة التراويح التجار أبو علي ‏الهلالي الحوراني المقرئ التاجر ‏(ت 546هـ)، والتاجر المكي الكبير الخواجا جمال الدين ابن الشيخ علي الجيلاني (ت ‏‏824هـ) ‏الذي “حفظ القرآن الكريم وصلى به التراويح فى مقام الحنفية [بالحرم المكي] سنة ست عشرة ‏وثمانمئة”. ومن أئمتها الفراشين ‏أحمد بن عبد الله الدوري المكي (ت 819هـ) “الفراش بالحرم الشريف [بمكة]، وكان يصلي بالناس صلاة التراويح في ‏رمضان”.‏

ومن أغرب قصص مشاهير “أئمتها” ما أورده المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ) من ‏أن الحبر اليهودي الكبير ‏موسى بن ميمون القرطبي “أسلم بالمغرب [مُكْرَهاً أيامَ الموحدين] وحفظ ‏القرآن واشتغل بالفقه؛ ولما قدم [بحراً إلى مصر] من ‏الغرب صلى بمن في المركب التراويح ‏في شهر رمضان”، وحين اطمأنّ مقامه في مصر عاد إلى ديانته الأصلية وصار “رئيساً على اليهود” ‏فيها وقاضيا لقضاتهم أيام ‏سلطنة صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ).‏

يتبع

المصدر: الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *