فجأة اكتشف رئيس الفريق البرلماني للعدالة والتنمية الحاكم، إدريس الأزمي، مساوئ الإقتراض الخارجي. وكتب مقالًا نشره الموقع الرسمي لحزبه الذي يقود الحكومة ينذر فيه من إغراق البلد بالديون محذرا من تجاوز مقتضيات الدستور، مقترحا كحل بديل للخروج من الأزمة التعويل على التضامن الداخلي وجمع التبرعات.
وربما يكون حزب السيد الأزمي آخر من يحق له الحديث عن ثقافة التبرع، التي تختلف طبعًا عن ثقافة “التبراع” التي برعوا فيها. وكلنا نعرف أن رجال حزب العدالة والتنمية ليسوا جميعهم رجال دين فقط بل رجال أعمال أيضا، وهؤلاء الرجال لديهم جمعية اسمها “جمعية أمل للمقاولات” ظلت تسهر على تنظيم الملتقيات الاستثمارية لرجال الأعمال الأتراك في المغرب، فلماذا لم نسمع أن هذه الجمعية تبرعت لصندوق مكافحة كورونا كما صنعت جمعية رجال الأعمال CGEM ؟.
بل لماذا لم نسمع عن أي رجل أعمال داخل الحزب، وهم كثر يملكون الشركات والمدارس والمستشفيات الخاصة، تبرع لهذا الصندوق ؟.
وعوض أن يساهموا في الصندوق الذي أنشأه الملك وساهم فيه من ماله الخاص ب200 مليار ها نحن نرى كيف خرج وزير الاتصال السابق مصطفى الخلفي، الذي يصر على لعب دور وزير الإتصال، لكي يشكك في تبرعات بعض المؤسسات لفائدة الصندوق.
وكما لا يخفى على كل من طالع مقال إدريس الأزمي فرائحة السياسة، بمعناها الضحل تفوح منه، خصوصًا عندما نفهم أن دواعيه لم تكن من أجل تقديم مقترحات لإنقاذ البلاد ولكن فقط للرد على مقترح تقدم به عزيز أخنوش بوصفه رئيسا لحزب مشارك في الائتلاف الحكومي الذي يقوده حزب الأزمي منذ ما يقرب من تسع سنوات.
ويمكن أن نختلف أو نتفق مع ما جاء في ورقة زعيم الأحرار، فهي ليست توجيهات ملزمة بل مجرد مقترحات، لكن لا يسعنا سوى أن نعترف بأن هذه الورقة هي الوحيدة التي صدرت عن حزب سياسي إلى حدود الآن، إذ ليس هناك حزب سياسي تقدم بمقترح لإغناء النقاش حول مستقبل المغرب وكيفية الخروج من هذه الأزمة، اللهم مقالة يتيمة نشرها مصطفى الرميد وزير حقوق الإنسان يدعو فيها المغاربة للتبرع، دون أن يقول لنا بكم تبرع مكتب محاماته الذي يعتبر من أكبر المكاتب في المغرب.
ويبدو أن إدريس الأزمي نسي أنه تقلد في حكومتي عبد الإله بنكيران الأولى والثانية منصب وزير منتدب لدى وزير الاقتصاد والمالية مكلف بالميزانية، وأنه غادر الحكومة تاركًا سقف مديونية البلاد في معدل 81 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، وهو رقم قياسي في المديونية لم يصله المغرب من قبل.
لذلك فإذا كان هناك شخص يجب أن لاينتقد خيار الإستدانة فهو الأزمي تحديدا، لأنه قضى وقته خلال حكومتين يتفاوض مع البنوك العالمية للحصول على ديون، علما أن المغرب لم يكن يواجه آنذاك لا كوفيد 19 ولا كوفيد 20، ومع ذلك غرقته حكومتا بنكيران في الديون حتى الأذنين، وهو الورش الذي أكمله سعد الدين العثماني ببسالة منذ تسلمه المشعل.
وإنها لمن سخريات الأقدار أن إدريس الأزمي الذي فشل في تسيير مجرد مدينة يريد اليوم أن يعطي الدروس في كيفية تسيير بلد بحاله.
فمنذ وصل الأزمي إلى عمودية فاس والشركات تغلق أبوابها والكساد يضرب القطاعات المنتجة في المدينة، ومع ذلك يعطي لنفسه الحق، وهو الحاصل على دكتوراه في الكيمياء، تنصيب نفسه مكان وزير المالية، مقترحا التضامن لإنقاذ البلد هو الذي ترك شباط عمدة فاس السابق يفر إلى ألمانيا بكل الثروة القارونية، دون أن يحيل ملفات خروقاته واختلاساته على القضاء.
لكن عندما يتعلق الأمر بقول الشيء والإتيان بنقيضه فلا أحد يستطيع أن ينافس الأزمي، ألم يدع في البرلمان إلى رفض مشروع فرنسة تدريس بعض مواد فيما أبناؤه يدرسون في مدارس البعثة الفرنسية بالرباط ؟.
والواقع أن المشكلة مع مقترح الأزمي ليس أنه وجيه أو ساذج بل مشكلته أن مقترحه خارج السياق الحالي كليا.
فنحن أمام أزمة عالمية غير مسبوقة، نعيش توقفا شبه كلي للعرض والطلب في ظل عجز كبير لموارد وإمكانيات الدولة.
لكن يبدو أن هذا المأزق المهول لم يستوعبه السي الأزمي فدخل في تحاليل واستنتاجات وبراهين تحيل إلى أزمة 2008/2009 ونكسة 2011، في الوقت الذي نعيش اليوم وضعًا يتجاوز ألف مرة ما يتخيله الأزمي ويبني عليه نصائحه الشبيهة بعظات أخيه في الحزب نجيب بوليف.
إذ كيف يمكن أن نحل مشكلة شح العملة الصعبة بالتضامن الداخلي، هل سيتبرع المغاربة بالأورو والدولار مثلا ؟
لهذا فلتوسيع احتياطي العملة الصعبة فلا مفر من الإستدانة. وعندما نقول إن الإستدانة هي الحل الأنسب لضمان احتياطي من العملة الصعبة فإننا لا نخترع العجلة، فجميع الدول بما فيها الأوربية وأمريكا ستلجأ للإستدانة، إذ أن الحل بالنسبة للدول التي تجابه جائحة كورونا ليس في تخفيض الإنفاق العمومي بل في فتح قنوات الإنفاق على مصراعيها وعدم التخوف من الفاتورة وذلك بضخ ما يكفي من الموارد في الإقتصاد، حتى ولو تعمق عجز الميزانية.
الدول التي تقترض وتنفق اليوم الموارد الضرورية بسخاء لمنع الإقتصاد من السقوط في حالة الغيبوبة هي في الحقيقة دولة توفر المال. لأنها إذا ما قررت قطع الموارد عن دورة الإقتصاد فإنها تقوده حتما إلى السكتة القلبية التي ستكون نتائجها مكلفة جدا، بحيث يمر الإقتصاد من حالة الكساد إلى حالة الركود الحاد.
ويبدو أن فهم الأزمي للتضامن لا يتعدى ما قام به رئيسه في الحزب والحكومة عندما قرر اقتطاع ثلاثة أيام على امتداد ثلاثة أشهر من رواتب الموظفين لتوفير 138 مليارا، متذرعا بأنه حصل على موافقة النقابات للقيام بذلك، علما أن النقابات لا تمثل سوى سبعة بالمائة من الموظفين وقراراتها لا تعني سوى زعماءها الخالدين على رأسها وحوارييهم الذين يعيشون على فتات موائد الحوار الإجتماعي.
ومع ذلك فالموظفون قبلوا بهذا الإقتطاع، ولو أن بينهم من يجب منحه بريمات وليس اقتطاعات، وأتحدث عن أطر الصحة ورجال الأمن والسلطة بجميع أسلاكها سواء كانوا موظفين في الداخلية أو درك أو جيش أو قوات مساعدة ورجال الوقاية المدنية.
الموظفون كانوا سيكونون سعداء بهذا الإقتطاع الذي يدخل ضمن فلسفة الأزمي التضامنية لو أنه شمل إلغاء بريمات كبار مدراء وموظفي المؤسسات العمومية، كالمالية مثلا.
ولو أنه شمل تجميد تقاعد الوزراء والبرلمانيين لثلاثة أشهر، وعلى رأسها معاش عبد الإله بنكيران ذو السبعة ملايين. أما الإكتفاء بالخصم من رواتب الموظفين الصغار فهذا لا يتطلب أن تكون عبقريا لتقوم به.
واعتبارا لكون الأخ لم يستوعب هول الوضع وضخامة الخصاص فإن حلوله جاءت بالضرورة ضحلة وهشة.
فهو يريد إقناعنا أن إنقاد اقتصاد البلد وكل ما يرتبط به من توازنات اجتماعية يمكن أن يتم فقط بالتضامن الداخلي، أي بجمع التبرعات حتى لا نغرق البلد في الديون ولا نتجاوز مقتضيات الدستور.
وبعيدا عن إنشاء الأزمي فنحن الآن بحاجة ماسة وعاجلة لاستنهاض العرض والطلب من أجل أن يبقى الاقتصاد الوطني واقفا على قدميه ويكون مستعدا للفرص الضخمة التي سيتيحها بدون شك الطلب الدولي خلال الستة الأشهر القادمة.
وبالإضافة للإقتراض فإن تمويل هذا الاستنهاض يجب أن يكون موزعا على منابع مختلفة عوض أن نعول على التضامن لوحده أو على المديونية لوحدها.
علينا أن نعرف أن الإتحاد الأوربي يمكنه أن يتيح إمكانية الإستدانة بنسبة فائدة سالبة. كما أن البنك الدولي يمكنه أن يمنح للمغرب إمكانية الاستدانة مما يسمى من “حقوق السحب الخاصة” droits de tirage spéciaux والتي تشتغل دون نسبة فائدة لتمويلات استثمارية، وهذا تدبير موجود الآن ويشتغل.
وعلى مستوى المؤسسات العمومية والخصوصية الكبرى فعلى الدولة أن تقدم لها ضمانتها لاستعمالها في الأسواق المالية الدولية للإقتراض المباشر لتمويل استثماراتها.
أما بنك المغرب فعليه أن يخفض من نسبة الفائدة إلى 1 بالمائة وأن يتخلص مديره من عقدة برنامج التقويم الهيكلي التي تلازمه.
أما بالنسبة للميزانية فيجب إعداد نسخة تصحيحية تحتفظ فيها الدولة بالحاجيات الأساسية للتدبير والاستثمارات غير القابلة للسحب، ويمكن أن تلجأ الدولة للإقتراض الداخلي بنسبة استثنائية لا تتعدى نسبة التضخم.
كما يبدو ضروريًا اليوم إعداد برنامج استثماري وتمويلي لكل قطاع على حدة مع المهنيين والأبناك حتى يذهب الجهد المالي نحو القطاعات الاستراتيجية التي تحظى بالأولوية وبالمردودية السريعة والمضمونة.
كل هذه الإمكانيات المالية يجب أن تذهب أساسًا لتشجيع بقاء الشركات والمقاولات على قيد الحياة، وذلك لتجنب إغلاقها وتسريح مستخدميها والتسبب في استفحال البطالة، وبالتالي تراجع الإستهلاك والسقوط في الإنكماش.
كل هذه الإجراءات لن يكون بمستطاع المغرب القيام بها فقط بالتعويل على التضامن الداخلي أو التبرعات، فالأمر يتعلق بتحريك مفاصل آلة جبارة اسمها الإقتصاد الوطني حتى لا تتباطأ أو تتوقف، وإذا استطاع المغرب أن يستعيد توازنه خلال 2022 فسنكون محظوظين جدا.
وهذا الكلام ليس رجمًا بالغيب بل هو توقعات مبنية على أرقام النشرة التي أصدرها صندوق النقد الدولي يوم 14 أبريل، بناءً على الفصل الثالث من هذه السنة، والتي تتوقع أن النمو في المغرب سيسجل عجزًا قدره ناقص 3،7 سنةً 2020، فيما يتوقع أن يسجل 4،8 سنة 2021.
فيما التضخم سيصل 0،3 بالمائة هذه السنة و1،3 السنة المقبلة. أما العجز فسيكون ناقص 7،1 هذه السنة ويتوقع أن يكون السنة المقبلة في حدود ناقص 4،5.
هذه الأرقام تعني شيئًا واحدًا هو أننا إذا استطعنا إبقاء رأس التوازنات المالية خارج الماء فإننا في أحسن الأحوال سنحقق في 2021 نفس أرقام 2019، أي أننا سنعيش سنتين عجاف، وأن استعادة الإقتصاد لعافيته سيكون بداية من 2022.
لكن يبدو أن ما يهم إدريس الأزمي وحزبه ليس إخراج المغربيتان معافى في أفق 2022 بل ما يهمهم هو عام 2021 موعد الاستحقاقات الإنتخابية.
وتلك قصة أخرى.

*رشيد نيني

ينشر بموافقة الكاتبة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *