حسين عصيد

 

لم يتوقع القائمون على الشأن السينمائي في هوليوود أن يشهد عرض فيلم “الجوكر” كل هذا النجاح الذي حققه بعد أسبوع فقط من عرضه في صالات السينما، إذ تمكن خلال هذه المدة الوجيزة من تحقيق أرباح صافية تجاوزت الـ474 مليون دولار، متوقعين له أن يبلغ حاجز المليار دولار بعد شهر فقط من عرضه، ليطيح بعدد من الأفلام عالية التكلُفة، التي تصدّرت قائمة أعلى المداخيل خلال هذا العام، مثل “أفنغرز: اللعبة الأخيرة” و”علاء الدين” وفيلم الرسوم المتحركة “الملك الأسد”.

لكنّ الجدل الذي احتدم فجأة بين النقاد والفنانين والكُتاب خلال فترة عرض فيلم “الجوكر” قد تجاوزت بكثير كل شيء ذي صلة بأرباحه المادية، ليتفرّع نقاش كثيف حول الأفكار العميقة التي طرحها الفيلم، والذي تمكن فيه المخرج تود فيليبس من “نزع قشور التكبر والنفاق الاجتماعي التي تغلف روح الإنسان المعاصر، مطّلعاً على أحلك ما في عُمقها، وسط تلك النواة الطافحة بالكراهية والعنف والعُقد النفسية”، كما أوردت صحيفة “واشنطن بوست”.

الفيلم “الصدمة”

شكّل فيلم “الجوكر” صدمة للمُهتمين بقطاع السينما، خاصة أنه احتفى بمجرم سيكوباتي موغلٍ في قتل ضحاياه بشتى الطرق وحشية، مداعباً مخيلة المشاهد بذكاء بالغ، حين حاول زرع نوع من التعاطف غير المشروط بين الطرفين، في حين تقتضي آداب فن السينما بأن ينتصر الخير على الشر وأن ينتهي كل عمل دراميّ بصعود نجم العدالة لتقتص من كل مجرم آثم، لكنّ هذه الطقوس المُكرّسة في مجال السينما منذ عقود سرعان ما تم تجاوزها بتهوّر في الفيلم، لتتحول الخطيئة إلى ثيمة مُقدسة ومُستحكمة في قلوب الناس في زمنٍ غابت فيه العدالة وتحولت فيه الأخلاق إلى مجرد ذكرى باعثة للرثاء.

“الجوكر” بين الأمس واليوم

تم تناول شخصية “الجوكر” بوفرة في السينما الأمريكية، لكنّ أكثر أدوارها وقعا في نفوس المشاهدين هي تلك التي مثلها النجم جاك نيكولسون في 1989 في الجزء الأول من فيلم “باتمان”، أعقبها النجم الأسترالي هيث ليدغر بدور آخر لا يقل روعة عن سابقه في نسخة “باتمان” لسنة 2008، حاز عنها بجدارة جائزة “الأوسكار”، التي لم يتسلمها أبداً، لأنه مات قبل أيام من الفوز بها بسبب جرعة زائدة من المخدّرات، إلى أن أتى المخرج تود فيليبس ليضع ثقته في الممثل خواكين فينيكس، محمّلاً إياه مسؤولية إعادة إحياء تلك الشخصية المُركّبة من ركامها العبثي، ليمنحها من نفسه كل قطرة من موهبته وكل دفقة من حماسه، مؤسّسا نسقا جديدا من السوداوية في السينما، ذكرها المخرج مارتن سكورسيزي في تصريح له بأنها “دعوة جديدة إلى دراسة الشر في شتى تقلباته”، ليقول عن “الجوكر” إنه “رغم ظهوره السينمائي كقاتل ومريض نفسي ومحرّض ومهرج عدمي، فإنه يحتفظ من بين كل الأشرار الذين طفحت بهم الشاشة الفضية عبر تاريخها، الذي تجاوز المائة عام، بمكانة خاصة في الثقافة الشعبية، ترسخت مع تكرار تمثيله سينمائيا”.

جذور شخصية “الجوكر”

يُعدّ “الجوكر” من أبدع الشخصيات التي شطحت بها قريحة رسام القصص المصورة العبقري جيري روبنسون، المتوفى في 2011، استخدمها منذ نهاية الأربعينيات لتخوض صراحها الوجودي القاتم ضد البطل الشعبي “باتمان”، لتتطور بعدئذ مع تحولها من الورق إلى السينما، متخذة أشكالاً عدة تنسجم مع واقع كل حقبة سينمائية أو سياسية أو اجتماعية عاشتها.

كان الجنون والخداع وغرابةُ الأطوار من أكثر الصّفات التي تميزت بها شخصية “الجوكر”. ولكونها وُلدت على صفحات القصص المصورة، فلم تتسم بداية بذلك العمق الذي شهدته على السينما، لأن قراءها كانوا إما مراهقين أو على أبواب الشباب، ولم تتخذ بُعدها الفلسفي إلى حين تمّ تناولها في السينما.

أما في ما يتعلّق بولادة هذه الشخصية، فأكثرُ القصص شيوعًا عنها هي أنه حين سقط “الجوكر” في خزّان نفايات للمواد الكيميائية، تسبب ذلك في ابيضاض بشرتِه وتحوّل شعره الى اللون الأخضر وشَفتيه إلى الأحمر، مانحة إياه مظهر المهرّج، لكنْ في الإنتاجات الحديثة للشخصية ظهر كشخص غريب الأطوار لديه نَدبتان حول فمه، الذي أصبح كفم مبتسم. وليعطي نفسه مظهرَ المهرّج، غطّى وجهه بمساحيق التجميل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *