محمد سليكي

على امتداد نحو ربع قرن من المشاركة في الحكومات المتعاقبة على اقتسام إدارة دفة الحكم منذ جلوس الملك محمد السادس على العرش، ظل ورَثة حزب علي يعتة وعزيز بلال وآخرين يمثلون “عسس الحريات” في حكومات تفرّقها المرجعيات.

بعد حضورهم في حكومة التناوب (4 فبراير 1998 -9 أكتوبر 2002) برئاسة الوزير الأول الأسبق عبد الرحمان اليوسفي، والإسهام في تأمين الانتقال السلس للعرش من الملك الراحل الحسن الثاني إلى وارث سره، الملك محمد السادس، وفق الشروط المراعاة في طقوس البيعة في النظام السياسي المغربي، سيواصل التقدمون معركة الحداثة بمواجهة الإسلاميين، ممثلين في حزب العدالة والتنمية وذراعه الدعوي، حركة التوحيد والإصلاح، الامتداد المغربي للتنظيم العالمي لـ”الإخوان المسلمون”.

لقد ظل حزب التقدم والاشتراكية وفيا لمرجعياته التقدمية وهو يناهض، من داخل حكومة عبد الرحمان اليوسفي الأولى، قوى الظلام والقوانين الرجعية، من خلال خوضه معركة “كسر العظام” ضد الإسلام السياسي، عبر تبنيه، على عهد سعيد السعدي، الوزير السابق، الخطةَ الوطنية لإدماج المرأة في التنمية.

تنمّر الإسلاميين على الوزير السعدي والمناضل التقدمي، الذي ظل وفيا لإرث علي يعتة وعزيز بلال ودماء الشهداء، لم يبق الفهم الخاطئ ربما لـ”القوامة” والتدبير المشترك للمرأة والرجل لشؤون الأسرة حبيس جدران مجلس النواب، بين لجنة العدل والتشريع، والجلسة العامة، بقدر ما انتقل إلى الشارع من خلال حشد مسيرة مليونية في الدار البيضاء لإسقاط الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، ما دفع إلى تحكيم ملكي أعاد الأمور إلى نصابها.

 

غادر عبد الرحمان اليوسفي حكومة ما بعد التناوب التوافقي بالطريقة التي يعرف الجميع، وعيّن القصر إدريس جطو وزيرا أولَ (9 أكتوبر 2002/​19 شتنبر 2007 ) وغادر سعيد السعيدي كرسي الحكومة، ولم يتحدث “الرفاق” عن المنهجية الديمقراطية ولم يغادروا حكومة يقودها رجل تكنوقراطي سبق أن نجح في تحقيق أرباح خيالية من صناعة “الصباط”.

ظل التقدميون ينافحون عن حكومة جطو وقرارات حكومة جطو، ونبيل بنعبد الله، ذلك الترجمان القادم إلى السلطة مدعوما من شيخ التقدميين، إسماعيل العلوي، يتولى منصب وزير الاتصال -الناطق الرسمي باسم الحكومة.

كان نبيل بنعبد الله وزيرا مجتهدا في تحديث الترسانة القانوينة المؤطرة للممارسة الصحافية في المغرب، دون التفريط في كبح جماح السلطة الرابعة، كما كان مجتهدا في الدفاع عن قرارات السلطة التنفيذية، برئاسة وزير أول من خارج المنهجية الديمقراطية..

غادر إدريس جطو الحكومة وغادر إسماعيل العلوي زعامة حزب التقدم والاشتراكية، ولم يغادر رفاق نبيل بنعبد الله، وهو مزهو بانتخابه أمينا عاما لحزب “الكتاب”، حكومة الاستقلالي عباس الفاسي (19 شتنبر 2007/2 يناير 2012) بذريعة “إحياء الكتلة الديمقراطية” (الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي، التقدم والاشتراكية) من داخل تجربة حكومة احترم في تكوينها التزامات “المنهجية الديمقراطية”.

لم تصمد حكومة عباس أمام رياح “الربيع العربي”، الذي سبقته خرجات للزعيم بنعبد الله يقول فيها، بصريح العبارة، إن “التحالف مع العدالة والتنمية خط أحمر”.. حتى أسقطت حركة 20 فبراير حكومة عباس الفاسي ودخل المغرب مرحلة ما بعد خطاب 9 مارس 2011 ودستور يوليوز من السنة نفسها، ونظمت انتخابات سابقة لأوانها، صعدت بالإسلاميين إلى السلطة.

باشر عبد الإله بنكيران، المعين رئيسا للحكومة (03 يناير 2012/17 مارس 2017) مهمة مفاوضات بناء فريقه الحكومي، فتفرقت أحزاب الكتلة الديمقراطية بين منجذبة إلى العرض البنكراني (الاستقلال، والتقدم والاشتراكية) وبين مديرة ظهرها للمشاركة في حكومة يقودها حزب العدالة والتنمية، كحزب الاتحاد الاشتراكي.

وبينما خرج حزب الاستقلال على عهد أمينه العام السابق، حميد شباط، من حكومة بنكيران في منتصف ولايتها، مستندا إلى بلاغ لجنته التنفيذية الشهير صيف 2013، سينقذ اصطفاف رفاق بعبد الله إلى جانب “البيجيدي” في التحالف الحكومي حكومة بنكيران من”السقوط”.

شكل هذا الاصطفاف نقط تحول في نظرة القوى الحداثية وجهات أخرى في الدولة إلى حمأة “الرفاق” المريبة في الاستماتة في الدفاع عن “الإخوان”.. كان مبرر نبيل بنعبد الله، الذي سبق أن أخرج تصريح له القصرَ عن صمته بإصدار بيان ينزّه فؤاد عالي الهمة، المستشار الملكي، مما ذهب إليه تصريح بنعبد الله.

ففي الثالث عشر من  شتنبر 2016، أي عشية تشريعيات 2016، صرّح بنعبدالله، في حوار مع أسبوعية “الأيام”، قائلا: “مشكلتنا ليست مع الأصالة والمعاصرة كحزب، بل مشكلتنا مع من يوجد وراءه، وهو بالضبط من يجسّد التحكم”، قبل أن يعقب على سؤال للصحافي حول من يقف وراء “البام”؟ بقول بنعبدالله “من أسّسه.. الأمور واضحة!”..

التقدم والاشتراكية يترك سفينة الحكومة
التقدم والاشتراكية يترك سفينة الحكومة

حينئذ لم يتأخّر الديوان الملكي في إصدار بلاغ للتاريخ قال فيه إن “التصريحات الأخيرة للسيد نبيل بنعبد الله، وزير السكنى وسياسة المدينة والأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، ليست إلا وسيلة للتضليل السياسي في فترة انتخابية تقتضي الإحجام عن إطلاق تصريحات لا أساس لها من الصحة”.

لم يقف بلاغ القصر عند هذا الحد، بل مضى قائلا إن “هذه الفترة الانتخابية تقتضي الإحجام عن إطلاق تصريحات لا أساس لها من الصحة واستعمال مفاهيم تسيء إلى سمعة الوطن وتمسّ بحرمة ومصداقية المؤسسات في محاولة لكسب أصوات وتعاطف الناخبين”، معتبرا أن هذه التصريحات “تتنافى مع مقتضيات الدستور والقوانين التي تؤطر العلاقة المؤسسة بين الملكية وجميع المؤسسات والهيئات الوطنية، بما فيها الأحزاب السياسية”.

انتهت انتخابات 2016 ولم يقوَ حزب التقدم والاشتراكية، وهو “مسخّن كتافو” بالبيجيدي وزعيمهم، الذي إنتهى مساره بعزلة سياسية، في الظفر بفريق كامل في مجلس النواب، ورغم ذلك، دخل حكومة سعد الدين العثماني.

وتشاء الصدف، أو هكذا يبدو الأمر، أن يستقبل الملك محمد السادس، يوم الاثنين 2 يوليوز 2018 في القصر الملكي بالرباط، عبد الحكيم بنشماش، بمناسبة انتخابه أمينا عاما جديدا لحزب الأصالة والمعاصرة، ويستقبل، في اليوم نفسه، محمد نبيل بنعبدالله، بمناسبة إعادة انتخابه، كذلك، أمينا عاما لحزب التقدم والاشتراكية.

بيد أن محمد نبيل بنعبد الله، الذي استقبله الملك بمناسبة إعادة انتخابه أمينا عاما لحزب التقدم والاشتراكية، وخصّه بنحو ثماني دقائق من زمن الاستقبال الملكي، يقول مصدر جيد الاطلاع لصحيفة “le12.ma”، هو نفسه نبيل بنعبدالله، الذي سيتسبب تقرير لمجلس جطو، الذي كان ناطقا رسيما باسم حكومته (9 أكتوبر 2002/19 شتنبر 2007) حول تعثر مشروع “الحسيمة -منارة المتوسط”، في توقيع الملك محمد السادس على قرار إعفائه من حكومة فقدَ فيها كبير “الرفاق” عكازه الذي ظل يهشّ به على.. خصومه.

أدرك نبيل بنعبدالله، منذ فشل بنكيران في مهمة إعداد حكومته الثانية، أن تعيين سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة (17 مارس 2017 ) لن “يخرج معه طرح الرفاق بسلام”، خاصة مع نجاح إدريس لشكر في ضمان مشاركة الاتحاد الاشتراكي في حكومة العثماني.. أخذا بالاعتبار أن إدريس يرى في نبيل ذلك اليساريَ الذي فتح باب حزبه أمام خصوم زعيم الاتحاد لتصفية لحسابات قديمة وحديثة بين الطرفين.

لذلك، ومنذ توجيه الملك محمد السادس تعليماته لرئيس الحكومة سعد الدين العثماني، صيف العام الجاري، لبدء مشاروات إجراء تعديل حكومة، لم يتأخر إدريس لشكر في رد الصاع صاعين لببنعبدالله، عندما طالب بتقليص أعضاء الحكومة إلى 28 وزيرا، نكاية في التقدميين المهددين تبعا لذلك بالخروج من الحكومة، ما ردّ عليه بنعبدالله في حينه بمخاطبته لشكر بالقول “أنت تافه ولا تستحق الردّ!”..

بيد أن النقطة التي أفاضت الكأس ليست السجال بين لشكر وبنعبدالله، بل يقول مصدر “le12.ma”، هي ما وُصف بـ”تهريب” رئيس الحكومة مشاروات التعديل الحكومي عن الإطار المخصص لها، وهو الأغلبية الحكومية، بدل المشاروات الانفرادية مع كل حزب على حدة.

“اشتمّت” قيادة التقدم والاشتراكية، المتمرسة على الفعل السياسي والتفاوض الحكومي ما وصفه مصدرنا بـ”ريحة الحريقْ” في مطبخ التفاوض الحكومي وأن استفراد رئيس الحكومة بكل زعيم حزبي على حدة هو تحلل واضح من قيود ميثاق الأغلبية، الذي يفرض على الحكومة أن تستمر بكل مكوناتها حتى نهاية ولايتها، وأن يتم تدبير قضاياها داخل هذا الإطار المؤسساتي لا خارجه.

لذلك كان من بين ما أسس عليه حزب التقدم والاشتراكية قرار إعلان خروجه قبل ساعات من حكومة العثماني قوله، في تصريح لديوانه السياسي: “سجل حزب التقدم والاشتراكية، بأسف، أن الأغلبية الحكومية الحالية، ومنذ تأسيسها إلى اليوم، وضعت نفسها رهينة منطق تدبير حكومي مفتقر لأي نَفَس سياسي حقيقي يمكّن من قيادة المرحلة والتعاطي الفعّال مع الملفات والقضايا المطروحة، وخيم على العلاقات بين مكوناتها الصراع والتجاذب والسلبي وممارسات سياسوية مرفوضة”…

لكنْ هل عدّد تصريح الديوان السياسي جميع الأسباب الحقيقية لإعلان حزب “الكتاب” مغادرة سفينة العثماني، أو حكومة “الإخوان” كما يسميها البعض؟.. مصدر قيادي في حزب التقدم والاشتراكي رفض الكشف عن هويته سيقول لصحيفة “le12.ma”: “هناك أسباب أخرى، أهمها الشعور بالشّمْتة.. كنا مْع العدالة والتنمية رجال ولكنْ ما صدقوشّ”.

وإذ نهنّئ حزب ورَثة علي يعتة وعزيز بلال على الاكتشاف المتأخر لـ”مكر” البيجيدي، نقول لهم “هذه آخرة من يتحالف مع الإخوان”… على رأي الإخوة المصريين. إيوا نوض على سْلامتك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *