في هذا التقرير يضع الكاتب عبد الحكيم يماني، الإعلان الصادر الاحد عن الرئاسة الجزائرية بشأن دراسة مشروع قانون حول “التعبئة العامة” تحت مجهر معهد الآفاق الجيوسياسية.
قرار استراتيجي في مواجهة ضغوط متعددة الأبعاد
جاء الإعلان الصادر الأحد عن الرئاسة الجزائرية بشأن دراسة مشروع قانون حول “التعبئة العامة” في سياق جيوسياسي بالغ الحساسية بالنسبة للجزائر.
هذه المبادرة، التي ورد ذكرها في البيان الرسمي الصادر عن مجلس الوزراء برئاسة عبد المجيد تبون، تُعدّ ردًا مباشرًا على حالة الحصار الدبلوماسي التي تتعرض لها الجزائر على عدة جبهات.
يندرج مشروع القانون هذا في إطار تصعيد دبلوماسي حاد، يتمثل في الدخول الأميركي على خط ملف الصحراء، والأزمة غير المسبوقة مع فرنسا، والتوترات العسكرية على الحدود مع مالي.
وفي مواجهة هذه التحديات المتزامنة، يبدو أن القيادة الجزائرية تسعى إلى بعث رسالة واضحة تؤكد من خلالها عزمها على الدفاع عن ما تعتبره مصالحها الحيوية.
المحفز الأميركي: وساطة تُشبه الإنذار
العنصر الأكثر إلحاحًا الذي دفع الجزائر نحو هذا المسار التشريعي هو التحركات الدبلوماسية الأميركية الأخيرة.
فقد أعلن مسعد بولص، مستشار الرئيس الأميركي لشؤون إفريقيا والشرق الأوسط، في 18 أبريل، عن وساطة مرتقبة بين المغرب والجزائر، وهو ما اعتُبر تحولًا كبيرًا في طريقة التعامل مع ملف الصحراء.
وجاء في بيان وزارة الخارجية الأميركية الصادر بتاريخ 8 أبريل 2025، أن ماركو روبيو “أعاد التأكيد على أن الولايات المتحدة تعترف بسيادة المغرب على الصحراء وتدعم خطة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب بوصفها الخيار الجاد والواقعي والموثوق به الوحيد من أجل حل عادل ودائم لهذا النزاع”.
وبالتالي، فإن الوساطة الأميركية المرتقبة لا تهدف إلى إعادة النظر في الموقف الأميركي، بل تسعى لإقناع الجزائر بالقبول بالإطار المغربي، الذي بات يحظى بدعم متزايد من قِبل عدد من الدول الغربية.
وتُضاف إلى ذلك تهديدات مباشرة بإدراج جبهة البوليساريو ضمن قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية (FTO)، كما ورد في مقال نشره معهد هدسون في 18 أبريل 2025، ما يزيد من الضغط على الجزائر.
إذ إن مثل هذا التصنيف ستكون له تداعيات كارثية على موقف الجزائر، ويعزل الحركة نهائيًا على الساحة الدولية.
حصار دبلوماسي غير مسبوق
يجب كذلك فهم مشروع قانون التعبئة العامة في ضوء التدهور المتزامن للعلاقات مع فرنسا ومالي، ما يولّد لدى صانعي القرار في الجزائر شعورًا بتطويق استراتيجي خانق.
الأزمة الجزائرية الفرنسية
تعيش العلاقات بين باريس والجزائر حالة من التدهور الحاد، بلغت ذروتها في أزمة دبلوماسية أدت إلى الطرد المتبادل لـ 12 دبلوماسيًا من كلا البلدين في أبريل 2025. ويُعزى هذا التدهور في جزء كبير منه إلى الدعم الفرنسي المتزايد للموقف المغربي في قضية الصحراء، وهو ما تعتبره الجزائر خيانة صريحة.
وقد أُعلنت العلاقات الثنائية “في حدها الأدنى”، وهي سابقة لم تشهدها علاقات البلدين منذ استقلال الجزائر عام 1962، مما يُضعف بشكل ملحوظ الموقف الدولي للجزائر، التي فقدت بذلك أحد أبرز محاوريها الأوروبيين التقليديين.
النزاع الحدودي مع مالي
وفي الوقت ذاته، تواجه الجزائر أزمة متصاعدة مع جارتها الجنوبية مالي. فقد تسبب إسقاط طائرة مسيّرة مالية من قِبل الجيش الجزائري مطلع أبريل 2025 في تصعيد دبلوماسي وأمني خطير.
وأدى ذلك إلى سحب السفراء بين البلدين وإغلاق مجاليهما الجويين، ما شكّل ضربة قوية لاقتصاد شمال مالي.
وتأتي هذه التوترات في سياق تراجع الثقة بين الطرفين منذ انسحاب مالي من اتفاق الجزائر لعام 2015، الذي كانت الجزائر تلعب فيه دور الوسيط المحوري.
كما ساهم التقارب بين باماكو وموسكو في مزيد من التدهور في العلاقات الثنائية، مما عمّق الإحساس بالعزلة الإقليمية لدى الجزائر.
التعبئة العامة: أبعاد قانونية واستراتيجية
يُعرّف الإطار القانوني الجزائري “التعبئة العامة” باعتبارها إجراءً استثنائيًا يُطبق في حال وجود تهديد خطير يمسّ السلامة الترابية والسيادة الوطنية.
ووفقًا لقانون نُشر في الجريدة الرسمية عام 2022، فإن هذا الإجراء يتيح استدعاء كافة العسكريين الاحتياطيين للتعامل مع أزمات كبرى.
ومن الناحية العملية، يشمل هذا الإجراء:
•تعبئة واسعة للاحتياطيين تحت سلطة الرئيس بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة؛
•تفعيل آليات استثنائية للدفاع الوطني؛
•إمكانية تطبيق أنظمة استثنائية كحالة الحصار أو الطوارئ.
وتُبرز هذه التدابير أن الجزائر، رغم ما تتعرض له من ضغوط دبلوماسية، ما زالت تمتلك وسائل كبيرة للدفاع عن مواقفها، لاسيما جيشها القوي ومواردها الطاقية الاستراتيجية.
الأهداف الاستراتيجية للجزائر
يبدو أن دراسة هذا المشروع ترمي إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية:
1.رسالة حزم موجهة إلى واشنطن
من خلال التلويح بالتعبئة العامة، توجّه الجزائر إشارة واضحة لإدارة ترامب بأنها تملك بدائل عن الاستسلام الدبلوماسي.
وتُعدّ هذه الخطوة محاولة لتعزيز موقفها التفاوضي في المحادثات المرتقبة، خصوصًا فيما يتعلق بمصير سكان مخيمات تندوف.
2.ردّ على التوتر مع مالي
يمكن أيضًا تفسير هذه الخطوة على أنها رسالة موجهة إلى السلطات المالية، تُذكّرها بالفارق الكبير في القدرات العسكرية بين البلدين، وبمخاطر الانزلاق نحو تصعيد لا يمكن احتواؤه.
3.أداة سياسية داخلية
داخليًا، يُمكن أن يوظَّف هذا المشروع لتعزيز شرعية النظام، من خلال تصوير الضغوط الدولية كتهديد وجودي يتطلب “الاصطفاف الوطني”.
وفي أوقات التوتر الاجتماعي، يُعدّ استحضار الشعور الوطني في مواجهة تهديد خارجي أداة سياسية تقليدية.
السيناريوهات المحتملة
تتضح ثلاثة سيناريوهات رئيسية خلال الأسابيع المقبلة:
•السيناريو الأول: التعبئة كأداة تفاوض
وهو الأكثر احتمالًا، ويتمثل في استخدام مشروع القانون كورقة ضغط في إطار المفاوضات المرتقبة، دون اللجوء فعليًا إلى التعبئة.
الهدف هنا هو تحسين شروط التفاوض مع الوساطة الأميركية، خاصة بشأن وضع سكان تندوف.
•السيناريو الثاني: تصعيد مضبوط
إذا اشتدت الضغوط الأميركية، خاصة مع احتمال تصنيف البوليساريو كمنظمة إرهابية، فقد تلجأ الجزائر إلى تعبئة جزئية لبعض فئات الاحتياطيين، لإظهار الجدية دون إشعال أزمة إقليمية شاملة.
•السيناريو الثالث: أزمة عميقة
وهو السيناريو الأخطر، ويتضمن لجوء الجزائر إلى تعبئة عامة فعلية ردًا على ما تعتبره تهديدًا وجوديًا.
رغم أن هذا الاحتمال أقل ترجيحًا، إلا أنه لا يمكن استبعاده تمامًا في ظل تصاعد التوترات.
خاتمة: رسالة قوية في لحظة حرجة
يشكل مشروع القانون المتعلق بالتعبئة العامة رسالة سياسية واضحة موجهة إلى مختلف الأطراف المنخرطة في التوترات الإقليمية. ومن خلال التلويح بالتصعيد، تسعى الجزائر إلى تغيير معادلة دبلوماسية أصبحت في غير صالحها.
ومن المرتقب أن تجري زيارة مسعد بولص إلى المغرب والجزائر، وكذلك مساعي الرئاسة الجزائرية لترتيب لقاء مع دونالد ترامب، في ظل هذا التهديد المحتمل.
وتأتي هذه المبادرة القانونية في إطار استراتيجية معقدة تهدف إلى حماية المصالح الجزائرية في ظل حصار دبلوماسي غير مسبوق.
وقد يكون عام 2025، الذي يُصادف الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، عامًا حاسمًا في مستقبل النزاع حول الصحراء والتوازن الجيوسياسي الإقليمي.
وستكون قدرة الأطراف المختلفة على التوصل إلى تسوية مقبولة العامل الحاسم في تحديد ما إذا كانت هذه السنة ستشهد حلًا نهائيًا للنزاع، أم انزلاقًا نحو تصعيد خطير في منطقة المغرب العربي.
* المصدر -معهد الآفاق الجيوسياسية