أما في العالم العربي فيبرز المغرب كنموذج صاعد في تبني الإدماج الرقمي، كرافعة للتنمية المستدامة فقد سجلت المملكة خلال العقد الأخير تطورا متسارعا في نسب تغطية الإنترنت حيث ارتفعت نسبة الولوج إلى الإنترنت إلى أكثر من أربعة وثمانين في المائة سنة ألفين وثلاثة وعشرين بفضل توسع شبكات الجيل الرابع واعتماد الساكنة على الهواتف الذكية في التصفح والاستعمال.

* الهزيتي محمد انوار

في عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة أصبحت الرقمنة ليست فقط خيارا تقنيا أو امتيازا خاصا بالنخب، بل تحولت إلى ركيزة من ركائز بناء المجتمعات الحديثة وإحدى المفاتيح الأساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية الشاملة فلم يعد النقاش العالمي حول الرقمنة مقتصرا على الابتكار والذكاء الاصطناعي فقط، بل توسع ليشمل قضية مركزية وهي كيف نضمن ألا يبقى أحد خارج التحول الرقمي الذي يشهده العالم اليوم والذي بات يشكل نمطا جديدا في التفكير والتنظيم والعيش.

الإدماج الرقمي لم يعد مفهوما تقنيا محضًا، بل أصبح يمثل حقا من حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين فالوصول إلى الإنترنت واستعمال التكنولوجيا الرقمية واكتساب المهارات اللازمة للاستفادة منها بات يشكل حجر الزاوية في التمتع بكثير من الحقوق الأخرى من التعليم إلى الصحة ومن الشغل إلى التعبير ومن الخدمات الاجتماعية إلى المشاركة السياسية لكن هذا الحق لا يزال بعيد المنال بالنسبة للملايين من البشر الذين يعيشون على هامش الثورة الرقمية.

تشير آخر الإحصائيات الدولية إلى أن أكثر من ثلث سكان العالم لا يتوفرون على اتصال منتظم بشبكة الإنترنت ويعيشون خارج المنظومة الرقمية الكونية ويعود ذلك إلى أسباب بنيوية ومعقدة تجمع بين الفقر وضعف البنية التحتية وغياب المهارات والأمية الرقمية والتفاوتات بين المناطق والطبقات والفئات الاجتماعية ففي كثير من الدول النامية لا تزال تكلفة الاشتراك في الإنترنت تمثل نسبة كبيرة من الدخل الشهري مما يجعل التكنولوجيا حكرا على الفئات المتوسطة والعليا كما أن الفجوة الجغرافية بين المدن الكبرى والمناطق النائية لا تزال واسعة سواء من حيث التغطية أو الجودة أو السرعة.

وعلاوة على العوامل المادية توجد عوائق ذات طابع ثقافي واجتماعي تقف عائقا أمام تعميم الرقمنة في عدد من السياقات خاصة لدى النساء وكبار السن والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة والمجموعات الهشة حيث تتقاطع التمثلات المحافظة والأدوار التقليدية والمحددات اللغوية والتعليمية في حرمان شرائح واسعة من الولوج الحقيقي للعالم الرقمي حتى وإن كانت الوسائل متوفرة فيزيائيا.

ورغم التحديات فقد شهد العالم تجارب ناجحة تعكس كيف يمكن للإرادة السياسية المقرونة بالابتكار أن تحدث تحولا نوعيا في الإدماج الرقمي ففي الهند ساهم برنامج الهوية الرقمية “آدهار” في إدماج ملايين المواطنين في المنظومة الإدارية والخدماتية للدولة كما ساعد في إيصال الدعم الاجتماعي مباشرة إلى المستفيدين وتقليص الفساد وفي كينيا أحدث نظام M-Pesa ثورة في الإدماج المالي من خلال استعمال الهواتف المحمولة في المعاملات المالية وهو ما مكّن شرائح واسعة من تجاوز البيروقراطية البنكية والمشاركة في الاقتصاد المحلي وفي أوروبا تبقى إستونيا مثالا رائدا في تحويل كامل خدمات الدولة إلى صيغة رقمية ما منح المواطنين أدوات فعالة وشفافة للتعامل مع الإدارة والشأن العام.

أما في العالم العربي فيبرز المغرب كنموذج صاعد في تبني الرقمنة كرافعة للتنمية المستدامة فقد سجلت المملكة خلال العقد الأخير تطورا متسارعا في نسب تغطية الإنترنت حيث ارتفعت نسبة الولوج إلى الإنترنت إلى أكثر من أربعة وثمانين في المائة سنة ألفين وثلاثة وعشرين بفضل توسع شبكات الجيل الرابع واعتماد الساكنة على الهواتف الذكية في التصفح والاستعمال.

 كما أطلقت الحكومة المغربية استراتيجية وطنية طموحة تحت عنوان المغرب الرقمي ألفين وثلاثين تهدف إلى خلق آلاف مناصب الشغل وتحقيق مساهمة نوعية في الناتج المحلي من خلال تطوير الاقتصاد الرقمي وتحسين الخدمات العمومية وتوسيع الولوج إلى البنية الرقمية على المستوى الترابي والاجتماعي.

تتضمن هذه الاستراتيجية محاور متعددة من بينها رقمنة الخدمات الإدارية وتحديث المنظومة التربوية عبر مشاريع مثل  DigiSchool  ومواكبة المقاولات الصغرى والمتوسطة في تحولها الرقمي من خلال مبادرات مثل DigiTPME وإطلاق منصات موجهة لفئات خاصة مثل الأشخاص في وضعية إعاقة إضافة إلى تعزيز البنية التحتية بفضل توسيع شبكات الألياف البصرية وخدمات النطاق العريض وتعميم نقط التبادل المحلية لحركة الإنترنت لتحسين السيادة الرقمية وتخفيض التكلفة.

ورغم هذا الزخم لا تزال التحديات قائمة بقوة خاصة على مستوى العدالة المجالية حيث تعاني العديد من المناطق القروية والجبيلة من ضعف التغطية أو غيابها وتسجيل نسب ولوج أقل بكثير من المعدل الوطني كما تشير الدراسات إلى أن التفاوتات بين الجنسين في استعمال الإنترنت لا تزال قائمة إذ تسجل النساء نسب استخدام أدنى مقارنة بالرجال بسبب عوامل ثقافية واقتصادية وتعليمية ويتضح كذلك أن كبار السن يشكلون فئة مهمشة رقميا مع ضعف كبير في المهارات الرقمية لديهم وغياب برامج مستهدفة لتكوينهم وتمكينهم.

في هذا السياق تبرز أهمية المجهودات التي تبذلها الدولة والمؤسسات الوطنية لتجاوز هذه التحديات إذ أوصى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بضرورة إدماج الرقمنة في قلب السياسات العمومية باعتبارها رافعة للعدالة الاجتماعية والتنمية المجالية كما دعا إلى تعزيز الأمن السيبراني وتحديث الإطار القانوني المتعلق بحماية البيانات الشخصية وإرساء بنية تحتية متينة للمعطيات الرقمية وإنشاء مراكز بيانات محلية تضمن سيادة الدولة على معلوماتها وحمايتها من المخاطر الخارجية.

من جهته شدد المجلس الأعلى للحسابات على ضرورة تحسين حكامة مشاريع الرقمنة واعتماد منطق تكاملي في تدبير نظم المعلومات الحكومية والقطع مع المقاربات القطاعية المنعزلة كما أوصى بتسريع تعميم التشغيل البيني بين الإدارات وتشجيع استعمال الوسائل التكنولوجية في تقديم الخدمات العمومية وتحسين علاقتها بالمواطنين مع ضرورة العمل على تقليص الفجوة الرقمية من خلال برامج تكوينية ودعم ولوج الأسر الفقيرة إلى الإنترنت والأجهزة الذكية.

وعلى المستوى الدولي ما فتئت منظمات مثل البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية تدعو إلى الاستثمار في الكفاءات الرقمية وتطوير منظومة الابتكار ودعم المقاولات الناشئة في المجال الرقمي من خلال تسهيلات مالية وتشجيع البحث العلمي وربط الجامعات بسوق الشغل الرقمي كما تدعو هذه المؤسسات إلى تبني حكامة رقمية شاملة تحقق الشفافية وتضمن الحماية وتحفز مشاركة المواطنين في اتخاذ القرار.

ختاما يمكن القول إن الإدماج الرقمي لم يعد مسألة تقنية أو بنية تحتية فقط، بل هو اليوم مشروع حضاري متكامل يهم الحقوق والعدالة والمشاركة والتنمية ويتطلب إرادة سياسية واستثمارات مستدامة وتنسيقا فعليا بين الفاعلين العموميين والخواص والقطاع المدني كما يتطلب تمكين الأفراد من استعمال التكنولوجيا بشكل آمن وفاعل وهادف بما يجعل من الرقمنة أداة لتحقيق النمو الشامل وتقليص الفوارق وتكريس المواطنة الكاملة في العصر الرقمي.

* خبير في التنمية الترابية. عضو المعهد الدولي للعلوم الإدارية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *