تقدم الوثائق الأربع التي بين أيدينا شهادة تاريخية ثمينة كتبها العالم الفقيه أحمد بن أحمد بن عمر العلوي الشنقيطي التنبكتي، أحد أعلام مدينة تمبكتو، في شهر رمضان من سنة 1270هـ الموافق لعام 1854م.
تسلط هذه الوثائق الضوء على الوضع السياسي والديني لمدينة تمبكتو في منتصف القرن 19، وتبرز عدة قضايا أساسية:
•أهمية التعليم الشرعي ونشر العلم الديني كأساس لاستقامة الأمة.
•واجب طاعة الإمام العادل، والنصح له والدعاء له والالتفاف حوله.
•وصف حالة الفوضى والاضطراب التي عمت المنطقة بسبب استبداد بعض الولاة وتقصيرهم.
•قيام أهل تمبكتو بالبحث عن إمام شرعي عادل، فلم يجدوا إلا سلطان المغرب مولاي عبد الرحمن بن هشام.
•إعلان البيعة الشرعية الكاملة للإمام مولاي عبد الرحمن، وإسقاط أي تبعية للسلطان العثماني أو غيره.
•تأكيد الاستقلال السياسي والديني لتمبكتو تحت السيادة المغربية.
وتحمل هذه الوثائق بوضوح الطابع المغربي الشريف في عباراتها ومفاهيمها الشرعية، من خلال استخدام تعابير مثل “أمير المؤمنين”، و”البيعة على كتاب الله وسنة رسوله”، إضافة إلى الدعاء التقليدي المستعمل في الأدبيات المخزنية المغربية، مما يعزز ارتباطها بالمؤسسة الملكية المغربية تاريخيًا.
تشهد الوثيقة التي كتبها العالم الفقيه أحمد بن أحمد بن عمر العلوي الشنقيطي التنبكتي، بمدينة تمبكتو في شهر رمضان سنة 1270هـ الموافق لعام 1854م، على مرحلة حاسمة من تاريخ الصحراء الكبرى، حيث أقدم علماء وأعيان تمبكتو على إعلان بيعتهم الصريحة للإمام مولاي عبد الرحمن بن هشام، سلطان المغرب، بوصفه الإمام الشرعي الذي تجب طاعته، ونزعوا بذلك الاعتراف بأي سلطة أخرى، بما في ذلك السلطان العثماني.
تميزت هذه الوثيقة بطابعها المغربي الشريف، سواء من حيث الأسلوب الفقهي التقليدي المعتمد، أو من حيث الصيغة الشرعية للبيعة القائمة على مبايعة الإمام العادل على الكتاب والسنة، وفق ما درج عليه العرف السياسي المغربي المستقل عن النفوذ العثماني.
وجاء في نص الوثيقة:
“إنه لما وقع اختلاف الزمن، واستبداد الولاة، وزوال الأمن، وانتهاب الأموال، وصار الاعتداء على النفس والعرض والمال، طلبت الأمة من علمائها أن يكلموا لهم من له أهلية إقامة الحدود، ورفع راية الجهاد، وحماية الدين، وإقامة الجمعة والجماعة، والصلوات الخمس، وإقامة الفروض والسنن، ومراقبة المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فدوروا فلم يجدوا في هذا الزمان إلا الإمام مولانا أمير المؤمنين عبد الرحمن بن هشام نصره الله وأيده.
فبايعوه مستسلمين له بالأمر والطاعة، داعين له بالنصر والتأييد، عالمين أن بيعته على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى إقامة دين الله، والذب عن حوزة الإسلام، ورفع أعلام الشريعة، وقمع البدع والمنكرات، وإقامة الحدود الشرعية، ومجاهدة أعداء الدين.
فلما تحققوا صحة بيعته ثبتوا عليها، وارتفعت إليه رقاع البيعة من سائر النواحي، وثبتت له الدعوة في جميع الأقطار، ونفذت أحكامه في سائر الجهات، وأذعن له الكبير والصغير، والغني والفقير، والقوي والضعيف.
ثم إن الذين كانوا من قبل يدّعون أنهم يقيمون شعائر الدين ويحفظون حوزة الإسلام، فلما جاءت الفتنة ظهر منهم النقص والتقصير، وتبين للناس أنهم لا يصلحون لذلك، فتركوا وذهبوا، وبقي الإمام المذكور، لا سلطان الترك ولا غيره.”
تحليل النص:
1.الإمام مولاي عبد الرحمن بن هشام بصفته الإمام الشرعي.
2.إبراز الطابع المغربي للوثيقة:
•استعمال لقب “أمير المؤمنين”، والصيغة الشرعية المغربية للبيعة، والدعاء الخاص بالسلطان، كلها علامات قاطعة بأن الوثيقة تنتمي للمدرسة السياسية المغربية.
3.رفض تبعية السلطان العثماني:
•النص يصرح بوضوح بأن السلطان العثماني ومن يمثلونه لم يعودوا صالحين لإمامة المسلمين في المنطقة، مما يعكس انفصال تمبكتو دينيًا وسياسيًا عن النفوذ العثماني.
4.بيعة عملية وليست رمزية:
•رقاع البيعة أُرسلت، وأحكام السلطان المغربي نُفذت، والدعوة باسمه استقرت في الأقطار، مما يدل على ارتباط فعلي لا شكلي.
تشكل هذه الوثيقة شهادة تاريخية بالغة الأهمية تؤكد أن مدينة تمبكتو وأهلها بايعوا سلطان المغرب مولاي عبد الرحمن بن هشام بيعة شرعية كاملة خلال رمضان 1270 هـ
كما تثبت أن الصحراء، بما فيها تمبكتو، كانت جزءًا من الفضاء السياسي المغربي المستقل عن الحكم العثماني، مما يعزز الامتداد السيادي المغربي في هذه المناطق تاريخيًا ودينيًا.
إنها وثيقة فريدة تثبت، بما لا يدع مجالًا للشك، أن سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية كانت مبنية على البيعة الشرعية والارتباط الديني والسياسي العميق
✍🏼وليد كبير- صحفي جزائري