نُظِّمت أخيرا في باريس وقفة تضامنية مع الغزاويين، في ساحة مقابلة لمقر “معهد العالم العربي”، أطرها محسوبون على اليسار الفرنسي وبعض الحساسيات الفلسطينية التي فقدت بوصلة النضال الهادف، والتي لا تُمثِّل إلا نفسها.
يونس التايب/كاتب صحفي ومحلل سياسي
خلال هذا الأسبوع، نُظِّمت في باريس وقفة تضامنية مع الغزاويين، في ساحة مقابلة لمقر “معهد العالم العربي”، أطرها محسوبون على اليسار الفرنسي وبعض الحساسيات الفلسطينية التي فقدت بوصلة النضال الهادف، والتي لا تُمثِّل إلا نفسها.
للأسف الشديد، شهدت الوقفة سلوكيات مشينة تستحق الإدانة الكاملة، بغض النظر عن هوية مرتكبيها، الذين لا يمكن تصنيفهم إلا ضمن خانة “الفوضويين” (Anarchistes)، والذين لا يرتقون إلى المستوى الأخلاقي المطلوب في الفعل التضامني مع الغزاويين في هذا الظرف الدقيق.
لست أدري ما إذا كان جميع الحاضرين في الوقفة متورطين في تحديد “الفقرات النضالية” وطبيعة “القيمة المضافة” التي استهدفوا تحقيقها من خلال الإتيان بصور رؤساء دول، لهم رمزيتهم في أوطانهم ولدى شعوبهم، ومكانتهم في السياق الدولي، والتعامل معها بالأسلوب المسيء الذي وثقته الفيديوهات.
لكنني على يقين أن غالبية هؤلاء يعيشون مراهقة سياسية متأخرة، ويحملون وعيًا فوضويًا لا يرى في النضال جدوى إلا إذا امتزج بالعبث وقلة الحياء.
بل يبدو لي أن بعض هؤلاء الفوضويين لا ينخرطون في الوقفات إلا إذا حملت بصمة استخباراتية لأجهزة البؤس التابعة لدولة الكراهية والعداء للمغرب والمغاربة.
وإلا، فما معنى تعمُّد إبراز العلم الجزائري والتونسي، دون غيرهما من أعلام باقي الدول العربية، كما ظهر في الفيديو بأيدي متظاهرين جالسين في الصف الأول جهة اليسار؟
هل كان الفوضويون يسعون لإقناعنا بأن الأنظمة السياسية للدولتين المذكورتين “نقطة ضوء” في مسيرة التضامن الداعم لأهل غزة، مقارنة بالدول التي تمت الإساءة إلى صور زعمائها؟ كيف يمكن تصديق هذا الوهم، والكل يعلم أن التظاهرات الشعبية المساندة للفلسطينيين مُنعت وقُمعت في الجزائر وتونس، عكس ما هو حاصل في المملكة المغربية، على سبيل المثال؟
لماذا يتجاهل الفوضويون الذين أساؤوا إلى رمزنا الوطني الأول، دلالات الموقف الرسمي للدولة المغربية، حيث يُعتبَر ملك المغرب الضامن الأول لحق أبناء شعبه في التظاهر نصرة لأهل غزة، بالآلاف، في كل المدن والجهات…؟.
أم أن المتظاهرين في ساحة “معهد العالم العربي” بباريس، لم يأخذوا علمًا بأن المغاربة تمتعوا بحرية التعبير عن تضامنهم مع الغزاويين، منذ اليوم الأول، حتى أن بعضهم عبّر عن مواقف سلبية مما يسمى “التطبيع” مع إسرائيل، دون أن يتعرض لأي تدخل سلطوي لمنع ممارسة تلك الحرية في الشارع؟.
حتى تكون الأمور واضحة، ما سقطت فيه الوقفة العبثية للفوضويين في باريس هو فعل يستحق الإدانة والرفض المطلق. كما تُرفض كل الخطابات التي تزايد على المغرب، بتحليلات لا تصمد أمام نقاش مسؤول وهادئ، بعيدًا عن السياسوية وخطر التبعية لأجندات خارجية لا تراعي واقعنا الجيوسياسي، ولا خطورة التكالب الذي يستهدفنا ويريد تمزيق أوصال وطننا.
في هذا الصدد، وعلى قدر إيماني بعدالة القضية الفلسطينية، ويقيني بأنها تستحق الترافع الصادق لإيجاد حل عادل يوقف السقوط المستمر للضحايا المدنيين، أؤمن أن من يتعمدون المزج بين التضامن الواجب مع أهل غزة للمطالبة بوقف الحرب فورًا، وبين الحسابات السياسوية التي تحضر فيها خطابات التأجيج والتعبئة والتجنيد لدعم مشاريع سياسية وتنظيمية معينة، يرتكبون خطأً في حق القضية ويمسون بموضوعية القيم الإنسانية التي تحملها.
كما أن استغلال الفعل التضامني لترويج خطابات تحريضية تعتمد التخوين والتشكيك في النوايا، وكأن هنالك “جهات” تمتلك الحقيقة المطلقة، و”جهات” في صف الباطل المطلق، واللجوء إلى ممارسات مسيئة تستهدف رموز السيادة في الدول التي قد لا يتفق بعض “المتضامنين” مع سياساتها ومواقف قادتها، هي أيضًا أفعال لا تليق، ولا تنفع، ولا توحد الصفوف، بل تنشر الفتنة والكراهية المجانية بين الناس.
من المؤكد أن من حق أي شخص أن يجتهد في بلورة قراءة مستقلة لقضايا الشرق الأوسط، يعبر عنها بحرية، حتى لو اختلفت مع مواقف وقرارات رسمية لبعض الدول.
لكن المطلوب هو التعبير بالكلمة التي تحترم القانون وتراعي آداب الحوار، وعدم مصادرة المواقف والآراء المخالفة، كما لا يُقبل أن يُصادر حقه في الاختلاف والتظاهر.
بكل تأكيد، لا يمكن أن يمر النضال من أجل وقف الحرب وإحلال السلام في غزة عبر “ترياب الحفلة”، والطعن في رموز الدول، وترويج خطابات الفتنة والتحريض.
ومن يعتقد بجدوى تلك الممارسات المسيئة، مدعو إلى التحلي بشجاعة تحليل مواقف جميع الدول العربية، خاصة تلك التي تساهم في كل مفاوضات ولقاءات وترتيبات، سرية أو علنية، بين أطراف الصراع الشرق أوسطي، لنعرف بالضبط: من يناصر من؟ ومن يفعل ماذا في الكواليس؟ وكيف يتم التفاوض وتُنسج التوافقات؟ وعلى حساب من بالتحديد؟
بعد ذلك، لا بأس في أن نجلس لنقاش هادئ ومسؤول، يعترف فيه الجميع بكل تقصير حاصل في أي من الساحات.
أما نشر الأخبار الكاذبة، واعتماد سياسة الكيل بمكيالين في التعاطي مع السياسة الخارجية لبعض الدول، وتفادي الحديث عن دول بعينها، وتعمد “السير مع الذئاب والبكاء مع الراعي” باستثمار أبواق إعلام التحريض المسنودة بميزانيات ضخمة، واستغلال الوقفات النضالية لتمرير “بعض” المواقف السياسية، وعدم الانتباه إلى خطورة النضال المخترَق من أجهزة استخباراتية مختلطة الهوية، فكلها سلوكيات تدل على النفاق والجبن السياسي والانحراف الأخلاقي، الذي لا يليق بأي فعل نضالي، كيفما كانت القضية التي نتحرك من أجلها.
على الفوضويين والعدميين، سواء كانوا من الفلسطينيين أو من غيرهم من الشعوب العربية والإسلامية، أن يعلموا أن المغرب، قيادة وشعبًا، كبير على العابثين والمتآمرين والمتربصين.
والمغاربة ليس لديهم ما يخجلون منه أو يخافون الحديث بشأنه، سواء لشرح مواقف معينة والدفاع عنها إذا كان ذلك ضروريًا، أو للاعتذار إذا ثبتت لدينا القناعة أننا اجتهدنا ولم يُحالفنا التوفيق والسداد.
في هذا السياق، وإذا كان المغرب الرسمي لا يُحبذ كثيرًا الانجرار إلى مستنقعات السجال الإعلامي، ولا يستعمل تقنيات الضرب الإعلامي تحت الحزام للدفاع عن مواقفه، فإن مواطني المغرب لديهم حرية أكبر في الحركة والكلام والرد على من يعتدون على حرمة بلادنا، ولا يجدون حرجًا في دخول ساحات السجال لتأكيد رفضهم القاطع لأي مساس برموزهم الوطنية أو وحدتهم الترابية.
وعلى جميع هواة “النضال الانتقائي”، وحملة الفكر الفوضوي والعدمي، أن يُدركوا أن المغاربة قد يصبرون على “التجاوزات”، خاصة إذا لم تكن مقصودة، لكنهم لا يُفرّطون أبدًا في كرامتهم وثوابتهم الوطنية، لأنهم يؤمنون أن المملكة المغربية، قيادة وشعبًا، تستحق شديد التوقير والاحترام، وينتظرون من جميع الحساسيات النضالية أن تستوعب هذه الحقيقة، وتتصرف على أساسها