ما قاله إيفانكو في مجلس الأمن ليس مجرد تقرير إداري، بل تشريح دقيق لمعادلة سياسية وعسكرية قائمة ملخصها أن المغرب يتحرك بدولة، والبوليساريو تتحرك بشعار. 

*محمد واموسي

خلال جلسة المشاورات المغلقة لمجلس الأمن الدولي حول قضية الصحراء المغربية أمس الاثنين في نيويورك، خرج رئيس بعثة المينورسو، الروسي ألكسندر إيفانكو، عن حياد البعثات الأممية المعهود، ليقدم أمام المجلس رواية مختلفة تمامًا عن تلك التي يحاول تنظيم البوليساريو التابع للجزائر  ترسيخها منذ أربع سنوات عبر الإعلام الجزائري المتحدث الرسمي باسمه حول وجود “حرب” في الصحراء المغربية . 

فجأة، لم يعد الصمت الدولي على الدعاية الحربية التي يقودها الإعلام الجزائري باسم هذا التنظيم كافيًا، فجاءت كلمات إيفانكو لتشكل محطة فاصلة بين الخيال السياسي والواقع العسكري.

منذ إعلان تنظيم البوليساريو “نهاية وقف إطلاق النار” في نوفمبر 2020، لم يتوقف الإعلام الجزائري عن بث أخبار وهمية ل”معارك يومية” و”خسائر جسيمة” في صفوف القوات المسلحة الملكية المغربية. 

لكن شهادة الروسي ألكسندر إيفانكو، وهي مبنية على المعطيات الميدانية لبعثة دولية محايدة، شكّكت بوضوح في صدقية هذه الرواية، بل قضت عليها عمليًا. 

الرجل لم يخفِ تشكيكه الجدي في قدرة البوليساريو على تغيير الوضع القائم عسكريًا، وقالها صراحة: “ليست قادرة على إلحاق أضرار كبيرة بالقوات المسلحة الملكية”، وهو تصريح يعادل دبلوماسيًا إعلان فشل المشروع العسكري للبوليساريو .

في المقابل، لم يخف رئيس البعثة الأممية إعجابه بما أسماه “ضبط النفس” الذي أبدته القوات المسلحة الملكية، رغم قدرتها “العسكرية الكبيرة”. 

هذا التوصيف لا يأتي من موقع المجاملة، بل يعكس معادلة دقيقة، و هي أن المغرب قادر على الرد، لكنه يختار طريق الشرعية الدولية والتروي، بينما الطرف الآخر يستمر في الهروب إلى الأمام بشعارات حرب لم تتحقق على الأرض.

المفارقة أن المغرب وافق على مبادرة وقف إطلاق النار خلال شهر رمضان، فيما رفضتها البوليساريو، وكأنها تصر على استدامة حالة اللاحرب واللاسلم، لا من أجل النصر العسكري، بل كأداة سياسية لابتزاز المجتمع الدولي.

ربما الأخطر في إحاطة إيفانكو هو كشفه لحجم العراقيل التي تضعها البوليساريو أمام عمل بعثة المينورسو. 

فقد تحدث عن قيود صارمة على تنقلات المراقبين الأمميين، ومنع لقائهم بقادة الجبهة، بل ومنع الطلعات الجوية، مما يجعل من الصعب حتى توثيق ما تدعيه البوليساريو من مواجهات عسكرية. 

هذا السلوك لا يعكس سوى خوف مزمن من الحقائق الميدانية، ورغبة في السيطرة على رواية الصراع دون رقابة أو شهود.

إشارة إيفانكو إلى الطريق الذي يبنيه المغرب لربط السمارة بموريتانيا تكشف بعدًا جيوسياسيًا جديدًا، و هو أن المغرب لا يكتفي بالرد العسكري المحدود، بل يكرّس سيادته عبر مشاريع البنية التحتية. 

هذا الطريق الذي رصدته دوريات المينورسو يُظهر أن المغرب يُرسّخ حضوره على الأرض لا بالقنابل، بل بالأسفلت والاستراتيجية، وهو ما يُفترض أن يُقلق كل من راهن على بقاء الوضع في الصحراء رهينة الجمود.

ولعل ما يزيد المشهد عبثية، أن بعثة المينورسو نفسها تعيش “أزمة مالية خانقة”، وفق رئيسها، ما أجبرها على تقليص دورياتها الجوية والبرية،خاصة مع تقليص ترامب تمويلها 

ما قاله إيفانكو في مجلس الأمن ليس مجرد تقرير إداري، بل تشريح دقيق لمعادلة سياسية وعسكرية قائمة ملخصها أن المغرب يتحرك بدولة، والجبهة تتحرك بشعار. 

الأول يبني ويضبط النفس ويصبر على البعثات، والثاني يعرقل ويتوعد و و يرفض التعاون . 

في عالم السياسة، ليس مَن يصرخ أكثر هو من يملك الحقيقة، بل من يصمد في وجه الضجيج ويحافظ على مشروعيته وهدوئه…وهذا ما يبدو أن الرباط تدركه جيدًا

ما كشف عنه إيفانكو، وما تُجمِع عليه مواقف العواصم المؤثرة داخل مجلس الأمن، هو أن النزاع في الصحراء لم يعد سوى ملف تصفية نهائية، تُركت فيها للبوليساريو والجزائر فرصة الالتحاق بقطار التسوية الواقعية أو الاستمرار في عزلة متفاقمة.

المغرب اليوم يتحرك بثقة، بدبلوماسية حازمة وبمشاريع استراتيجية ميدانية، بينما تتآكل أوراق خصومه… ومعها الروايات التي يملؤ بها الإعلام الجزائري المنابر والمنصات.

*كاتب صحفي مغربي  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *