بانصرام شهر رمضان المبارك، تكون قد مرّت على ظهور مبادرة “تحدّي الكارْني” أربع سنوات كاملة من سريان “حسنات” من نوع آخر اختار مجموعة من الشّباب المغاربة فتح بابها لمن يريدون أن “يعتمروا” أو حتى “يحُجّوا” لكنْ هنا في المغرب، دون أن يُجشّموا أنفسهم عناء السفر حتى المملكة العربية السعودية من أجل ذلك، فالصّدقة في المُقرّبين أولى..
على امتداد تاريخه العريق، شهد المغرب دوما العديد من المبادرات والأعمال الإحسانية والاجتماعية التي تعكس الطابع التكافلي والتضامني الذي طبع ويطبع علاقة أبنائه بعضِهم ببعض، لا سيما في أوقات المِحَن والأزمات.
وإذا كان المغرب يشهد خلال الشهر الفضيل العديد من المبادرات التي تقف وراءها فعالياتُ من المجتمع المدني أو من عموم الشّعب لمساعدة إخوانهم المحتاجين، سواء من خلال تنظيم موائد إفطار للصّائمين أو توزيع المواد الغذائية على المحتاجين، والغاية تعزيزُ التكافل والتضامن بين كلّ أفراد المجتمع المغربي، فإنّ أشهر هذه المبادرات في السّنوات الأخيرة مبادرةُ “تحدّي الكارْني”.
عبد الرزّاق بوتمُزّار -le12.ma
تستهدف مبادرة “تحدّي الكارْني”، التي أطلقها شباب مغاربة قبل أربعة أعوام، “عتق” أُسَر تنتمي إلى الطبقات الدّنيا ممّن أثقل “كارْني الكْريدي” كاهلها وأرهق عاتق مُعيلها -إن وُجد- بديون إضافية لفائدة “مُول الحانوتْ” قد لا تبدو لبعضنا مبالغَ ماليةً كبيرة، لكنها كذلك وأكثر بالنسبة إلى من يجدون صعوبة في تدبير قوتهم اليومي.
مبادرة لفعل الخير عبر بوابة التضامن والتكافل
يتلخّص “تحدّي الكارْني” في عمل مُنظّمي هذه المبادرة التضامنية الرّاقية وكافة المشاركين فيها على تسديد ديون الأُسَر المُعوزة لدى محلات البقالة في الأحياء الفقيرة، كلٌّ حسب استطاعته، من خلال دفع المبالغ المُسجَّلة في “الكارْني” على إحدى الأسر المعنية.
وبعد أن يُؤدّي كلّ واحد من المنخرطين في هذا “التحدّي” التضامني بحسب ما تسمح به مقدرته المادية، “يتحدّى” خمسةَ أشخاص آخرين لفعل الشّيء نفسه، وهكذا يتسع نطاق هذا العمل الإحساني النبيل.
وانطلق منظّمو هذا “التحدّي” الخارج عن المألوف من فكرة أنه ما دام بعض المغاربة يتنقّلون كل سنة حتى الشّرق العربي من أجل تأدية العمرة -وهي الشّعيرة الدينية النافلة- فلِمَ لا يتمّ استغلال هذه الأموال في غاية أخرى مؤكدٌ أن جزاء صاحبها عند الله تعالى سيكون أفضلَ بكثير، وفي الوقت نفسِه يساعد إحدى الأسَر المعوزة ويُخفّف عنها “الحمل”، خصوصا أنّ المبادرة تكون في شهر رمضان الأبرك.
ويسعى الشّباب المغاربة من وراء “تحدي الكارْني” إلى دفع قيمة ديون “فقراء” لدى محلات البقالة خلال شهر رمضان الجاري، بغاية أسمى تتمثل في الإسهام في تفريج كربة هؤلاء “المساكين” وتعزيز قيَم التضامن والتكافل الاجتماعيين الضّاربةِ جذورُهما في عمق المجتمع المغربي منذ غابر الأزمنة.
والجميل في المبادرة أن وهجها لدى الفئات الاجتماعية يزيد ورقعتَها تتمدّد لتشمل أشخاصا آخرين. فإحدى الرّكائز الأساسية لهذا “التحدّي” تتجلى في الانخراط فيه خلال الشّهر الفضيل، الذي ودّعناه قبل أيام، بهدف فكّ ضائقة مسكين ودفع ديونه المُقيَّدة باسمه لدى “مُولْ الحانُوتْ”.
“تدوير” العمل الإحساني
تقوم هذه المبادرة الخيّرة، كما أسلفنا، على تسديد دين أسرة أو جزء منه، ثمّ بعد ذلك تشجيع المشاركين وتحفيز بعضهم بعضا على “قبول” هذا “التحدّي” ورفعه أمام عشرة أصدقاء آخرين يختارهم المُتبرّع السّابق عبر منشور له في مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث تضمن بادرة “تحدّي الكْريدي” تحفيز أشخاص آخرين على المشاركة في تسديد أكبر قدر من ديون “الفقراء” ممّن سيكون من نصيبهم هذا “الإنقاذ”، الذي لم يكن ليدور بخلَدهم ولا ليدخل في دائرة توقّعاتهم كحلّ للخروج من أزمتهم.
ويجب على كل من يرغب في المشاركة في هذا العمل الخيري الإحساني، وفق شروط “التحدّي”، أن يتوجّه إلى محل بقالة قريب ويطلب “كنّاش الكْريدي” غيرَ المدفوعِ دَينُه من صاحبه بعدُ ويقوم هو بتسديد الدَّيْن (كلِّه أو جزءٍ منه) بحسب القدرة المادية لكلّ متطوع، ثمّ يقوم كلّ واحد منهم بمشاركة هذه “الحملة” النبيلة مع كلّ يستطيع تولّي دفع دَين لفائدة واحدة من الأسر الفقيرة.
من هذا المنطلق نكون أمام ما يشبه عمليةَ “تدوير” للعمل التضامني التكافلي، إذ تكبر كلّ عام (كلَّ رمضان تحديدا) لائحة المشاركين أو المنخرطين المتطوعين في “تحدّي الكارْني”، الذي ينمّ عن وعي عميق من المغاربة بأهمّية العمل الخيري وعن إحساس نبيل بما تكابد الطبقات الدّنيا من مصاعبَ ومَشاقَّ في مواجهة متطلبات الحياة اليومية، خصوصا بالنسبة إلى الأسَر المعوزة التي أعياها “ضنك” العيش، لا سيما إن كانت الأسرة قد فقدت مُعيلها أو الأسر التي تعاني من التفكّك الأسري، نتيجة طلاق أو غيره.
وللبقّال نصيب..
يحظى “مُول الحانوتْ” في الثقافة الجمعية للمغاربة بمكانة خاصة في النسيج المجتمعي والاقتصادي، بالنظر إلى “الخِيرْ” العميم الذي يُسديه للعائلة المغربية، لا سيما المعوزة منها، من خلال “دفتر الكْريدي”، الذي يحتفظ فيه بمجمل ديونه لسكّان الحيّ أو الحومة، وإن كان يعرف أنه ليست هناك “ضمانة” تُؤكّد له أنه سيتوصّل بديونه من الجميع، في نهاية المطاف.
وإذا كانت مبادرة “تحدّي الكارْني” في صالح الأُسَر والعائلات التي عليها ديونٌ غير مُسدَّدة، فإنها في صالح البقّال أيضا، على أساس أنه بقبوله فتحَ دفتر ديون يكون قد أبدى حسن نيته وهو يُقدّم هذه المساعدة الإنسانية الرّاقية وعبّر -بكيفية عملية- عن ثقته في سكّان الحيّ أو الحومة، وإلا ما كان ليُقدّم لهم ما يحتاجون من موادّ استهلاكية أساسية أو غيرها من سلعه الكثيرة التي نحتاجها في حياتنا اليومية دون مقابل ولا حتى “ضمانة” إلا ما كان من “وعد بالدّفع” مُدوَّنٍ في مذكّرة صغيرة.
ويُعَدّ البقّال، من خلال هذه المبادرة، مستقيدا أيضا، فهو حين سيتوصّل بمبالغ ديونه ديونه المُستحَقّة المُسجَّلة على هذه العائلة أو تلك فسيكون ذلك بالنسبة إليه بمثابة تشجيع وتحفيز على تقديم المساعدة لأشخاص آخرين ومواصلة مساعدة زبائنه المعوزين السّابقين.
كلَّ رمضان مزيد من النجاح للمبادرة
يزداد إشعاع هذه الحملة التضامنية الرّائدة سنة بعد أخرى، إذ عُدّ “تحدّي” هذه السّنة ناجحا بكل المقاييس، يدلّ على ذلك التفاعلُ الواسع مع هذه المبادرة التي تستحقّ التشجيع، والتي تكشف المعدنَ النقيَ للمغاربة، بغضّ النظر عن طبقاتهم الاجتماعية، فهُم “كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسّهر والحُمّى”.
ويمكن ملاحظة مظاهر نجاح حملة رمضان الأخير من خلال العديد من المُؤشّرات، لعلّ أبرزَها ما لاحظناه من تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي باختلاف تسمياتها وتعدّدها (من فيسبوك وإنستغرام وتيكتوك وغيرها). فقد عمدت كثير من الصّفحات والمجموعات في هذا الموقع التواصلي أو ذاك على مشاركة “الفكرة” وتقاسمها لتصل إلى أعداد إضافية من رواد هذه المواقع والمنصّات.
وإذا كان وجهُ “الخلاف” الوحيد في خضمّ هذا “التحدّي” ذي الغايات النبيلة هو هذا الانقسام بشأن ما إذا كان يجب أن “تظهر” الصّدقة أم تبقى طيّ الكتمان، فإنّ درجة التفاعل والتجاوب معه عالية. وصرّح كثير من المتفاعلين مع المبادرة بأنّ تبنّيهم فكرةَ هذه المبادرة الاجتماعية يجعلهم “قدوة حسنة” ويُحفّز مزيدا من الناس للانضمام إلى هذه الحملة التضامنية، التي تفتح المجال أمام مبادرات مماثلة بصيغ وطرق أخرى، ما دام الهدف نبيلا يتجلى في “فعل الخير”. والله من وراء القصد
