نورد عن هذا المعلم الديني البارز في قلب “الحمامة البيضاء” مقالا منشورا في “دعوة الحق” لعله يعطينا لمحة تاريخية عن أهمّ سمات ومحطات تشكّل هذا الصرح العمراني والروحي في تطوان.
أعدها للنشر – عبد المراكشيle12
اشتهر المغرب بكونه يتوفر على عدد كبير جدا من المساجد، حتى لَتجد من ينتقذون هذه الوفرة “الملحوظة” لـ”بيوت الله” على حساب مرافق حيوية أخرى ضرورية لحياة المواطن البسيط، مثل المدارس والمستشفيات والمصانع.
بناء على هذه المعطيات لا تكاد تخلو أية قرية نائية أو مدشر موغل في أعماق “المغرب غير النافع” من مساجدَ يُذكر فيها اسم الله، فما بالك بمُدن المركز وباقي الحواضر الكبرى في بلاد الـ مسجد.
سنأخذكم، من خلال هذه الفسحة الرمضانية “حكاية مسجد” في جولات عللا بساط من كلمات خطّتها أقلام مغربية مختلفة عن أشهر مساجد المغرب وجوامعه.
نورد عن هذا المعلم الديني البارز في قلب “الحمامة البيضاء” مقالا منشورا في “دعوة الحق” لعله يعطينا لمحة تاريخية عن أهمّ سمات ومحطات تشكّل هذا الصرح العمراني والروحي في تطوان.
انقشع الظلام، وغردت ورق الحمام، وتفتحت الأكمام، وأشرق نور الإسلام، فرفع للمساجد منارها، وأقام بنيانها، لتكون بيوتا لله، ومراكز لذلك النظام الجديد السماوي فيها بعبد الله بإقامة الصلوات، وجمع الصدقات، وأداء أنواع القربات، وفيها تعقد الاجتماعات لأنواع الدراسات، ومن علم وتعليم ومشورة وتآمر وتحاور في شؤون الدين وأمور الدنيا مما جاء به الإسلام الحنيف، وما يعود على الأمة بالخير العميم.
ومن يومئذ والمسجد هو المعقل الحصين لحياة المسلمين، يؤمونه خمس مرات في اليوم للعبادة والاتصال بربهم، ويقصدونه للتعليم لأنه أول مدرسة فاضت عليهم بالعلم الغزير، والخير الكثير، بل المسجد أكبر مدرسة فتحها وعلم فيها أكبر معلم عرفته الإنسانية على الإطلاق، وهو محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
كما كان التلاميذ الذين تخرجوا في مدرسة المسجد أشرف وأفضل تلامذة عرفهم التاريخ ومنهم الخلفاء الراشدون، وسائر أصحاب رسول الله عليه السلام، الذين هم أشرف طبقات هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس.
وكانت مواد الدرس في هذه المدرسة هي أشرف وأسمى مواد على الإطلاق، وهي كتاب الله العزيز ونظامه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسنة سيد المرسلين وتعاليمه الوضاءة.
وبعبارة أخرى أن المسجد هو الجامعة الكبرى التي أسستها دولة السماء الجبارة، لتعليم أعلى المثل وأروعها للبشر، تلك المثل والتعاليم التي جاء بها الروح الأمين جبريل إلى أكرم معلم لتلقينها للبشرية جمعاء، لتكون نورا للناس، وحجة عليهم إلى يوم الدين.
ومن ذلك نعرف مقدار اهتمام الإسلام والمسلمين بالمساجد وتعظيمها وبنائها وتشييدها في أول ما يشيدون، فما وضعوا تصميما لقرية أو مدينة إلا وكان المسجد من أول عماراتها، تأسيا بالمؤسس الأول محمد (ص) عند ما قدم المدينة مهاجرا فكان أول ما بدا به بناء المسجد الذي كان هو المجتمع، والمؤتمر، والمدرسة كما كان المعبد ثم جرى على نهجه ذلك المسلمون بعده.
وهذا ما فعله أبو الحسن علي المنظري في بناء الجامع الكبير عند ما قدم مهاجرا مع أصحابه من الأندلس، إذن لهم محمد الشيخ الوطاسي ببناء تطوان لتكون مقرا لهم فكان من أول ما بدا به في تصميم المدينة هو المسجد جريا على تلك السنة ابتعها المسلمون في بناء قراهم ومدنهم.
كما أشار إليه الناصري السلاوي في الاستقصاء بقوله: (ولما عقد له الشيخ الوطاسي -يعني المنظري- على أصحابه رجع بهم إلى تطاوين، وشرع في بناء أسوار البلد القديم فجدده وبنى المسجد الجامع به واستوطنه هو وجماعته) وكان ذلك في أواخر القرن التاسع الهجري.
ومن هنا يتضح لنا أن تاريخ تأسيس الجامع الكبير كان منذ إعادة (المنظري) لتطوان التي كانت حصنا خربا يعوي فيه اليوم، فجاء مهاجرة الأندلس، وأعادوا إليه الحياة فتم ببنائه الجامع الأعظم الذي كان صغيرا بالنسبة إلى ما هو عليه الآن، وكان محاطا بالأبنية.
وكان موقعه في سوق السياغين بجوار الملاح بوسط المدينة في مكان بارز، يظهر من جميع جهات البلد بصومعته التي ترى من كل نواحي تطوان، والتي يبلغ ارتفاعها نحو العشرين مترا، ويحتوي سلمها على 107 درجة، يبلغ ارتفاع الدرجة الواحدة نحو الشبر ….تقريبا.
وشكل الصومعة مربع، ونصفها السفلي أبيض، ونصفها الأعلى فيه من الجوانب الأربع، أربع مستطيلات بيضاء مطوقة بالأجر الأحمر، والباقي من محيط الصومعة ملبس بالزليج الأخضر، ما عدا القمة فإنها حمراء وسطحها المحدد الرأس مسقفا بالقرميد الأخضر، وفي النصف الأسفل من الصومعة بيت صغير للساعات يحتوي على سبع ساعات كبيرة متفاوتة في القدم، وفيه بيت آخر للموقت أحد بابيه إلى جهة سطح المسجد، والثاني داخل الصومعة.
وظل هذا الجامع بقارع السنين، ويعارك الزمن، ويقوم بحاجات أهل تطوان من عبادة وعلم وتدريس وغير ذلك من خدمات حتى سنة 1223 فهيأ الله له ذلك الملك الصالح (مولاي سليمان) الذي كان مجبولا على حب الخير والسهر على مصالح الأمة خصوصا ما كان منها يتعلق بالعلم والدين وتشييد معاهده ومساجده فقد كان من مصالح أفعاله وجليل أعماله التي توجهت إليها عنايته، بناء وتجديد عدد كبير من المساجد كان من جملتها الجامع الكبير بتطوان، فإنه أمر بتجديدة وتوسيعه فهدم وأضيفت إليه المدرسة المجاورة وبعض الرباع الموالية، فكانت المدرسة مدرسة الفقيه الروشة عددا من الحجرات لسكنى الطلاب.
وفي تلك السنة أي سنة 1223 أعيد ذلك المسجد بعد ما أبعد عنه اليهود الذين كانوا يسكنون بجواره في الملاح البالي وكان اليهود قد اتهموا بسرقة ماء المسجد الذي كانت أنابيبه تمر بدورهم تحت الأرض فقطعوها، وبقي المسجد مدة من الزمن بلا ماء حتى علم بذلك، وكرهت إقامتهم بجوار المسجد فاقتطعهم مولاي سليمان الملك أرضا خارج المدينة ما بين السور والمصلى لقديم والفدان، وبعد أن رضي اليهود الأرض الجديد وشهد عليهم العدول وأمضى ذلك رؤساؤهم، بنى لهم الملاح الجديد ولا يزال حتى الآن.
هذا وما زال الجامع الكبير موضعا للمهام الجسام التي كانت للمساجد الإسلامية من قبل في سائر الأمصار، فقد كان معهدا دينيا لتخريج العلماء والمرشدين، وكانت وفود طلاب العلم تتوارد عليه زرافات ووحدانا من مختلف القبائل المجاورة ولما انتظمت مدرسة لوقاش المعروفة، لم يكن لطلابها موضع يتلقون في دروسهم أحسن من الجامع الكبير الذي كان المنهل الوحيد العذب لمختلف المشارب العلمية من وعظ ودرس وغير ذلك.
كما كان محلا لتلاوة الظهائر السلطانية وتلقي الأحكام الملوكية وأول من تولى الإمامة في هذا المسجد بعد بناء السلطان مولاي سليمان له هو السيد محمد بن محمد الحراق، وفي السنين الأخيرة سار الجامع الكبير معهدا للتعليم الديني الإسلامي، وكان يبلغ طلابه أحيانا إلى المئات وكانوا يتقاضون جراية نقدية قدرها ثلاثة ريالا حسنية لكل واحد منهم علاوة على الخبز وتبرعات المحسنين.
وكانت تلك الجراية من أحباس الجامع، ثم أخذت قيمة الجراية ترتفع بتقدم الزمن إلى أن بلغت نحوا من 750 فرنك للطالب وذلك في سنة 1947م بعد ما اتسع منهاج التعليم الديني وعين له عدد من الأساتذة ومقدار من المال لإعانة الطلاب، وللنفقات الأخرى التي كانت تنفق على المسجد كنفقات قراءة الحزب، والمنح التي تعطى لحفاظ كتاب الشيخ خليل عن ظهر الغيب ليقوموا بتلاوته في الجامع الكبير، ورواتب الوعاظ، وما ينفق على قراءة الأدعية، ثم هناك نفقات أخرى للجامع كالفرش والحصر والترميم والتبييض والإصلاح وشراء المصاحف للتلاوة وما إلى ذلك، وبالجملة فنفقات الجامع السنوية تبلغ نحو 13700 درهم مغربية، وله أحباس مختلفة قديمة وحديثة لم نتمكن من معرفة مجموع ما تغله.
وبناء الجامع يكاد يكون مربعا، بل نقول على التحقيق أنه مستطيل من الشرق إلى الغرب، وتبلغ مساحته 768,35 من الأمتار المربعة، أما ارتفاعه فيبلغ 10 أمتار تقريبا، وسقوف بلاطاته محدودة على شكل ظهر الحيوان مغطاة بالقرميد الأخضر وله ثلاثة أبواب، واحد ينفذ إلى جهة الجنوب وهو الباب الكبير العام للمسجد، وهو مرتفع كثير النقوش والزخارف الملونة التي جعلته غاية في الباب الكبير العام للمسجد، وهو مرتفع كثير النقوش والزخارف الملونة التي جعلته غاية في البداعة وحسن المنظر وأمامه فانوس براق ذو لون ذهبي معلق في سقف الشارع.
أما البابان الآخران الشمالي والغربي فليس فيها ما يستغرق من الفن والصنعة، ولكنهما يشاركان الأول في الكبر والسعة والارتفاع ـ وفي مدخل الباب الغربي رواق مستطيل من الجنوب إلى الشمال مبلط بالرخام، قد صنعت في جانبيه أنابيب للوضوء كتب في أعلى كل جانب منها تاريخ بنائها الذي هو تاريخ الإصلاحات الأخيرة 1359 والصورة توضح لك كل ذلك.
وأهم جدران المسجد هو الجدار القبلي لما فيه من الأشياء التي تستحق الذكر، ففي أعلاه مما يلي …السقف ست طاقات على أشكال مستطيلة في عرض الجدار، تنير داخل المسجد وتمده بالهواء، وهي من الإصلاحات المتأخرة التي زانت المسجد وأكسبته بهجة فضلا عما فيها من الفوائد الأخرى، وكل هذه الطاقات مبوبة بأبواب زجاجية ترتبط قطع كل باب منها بنجمتين خشبيتين مسدستي الشكل، وفي أسفل الجدار طاقة أخرى كبيرة قرب الأرض مما يلي الركن الجنوبي للجدار، وعلى يسار هذه الطاقة خزانة، وعلى يسار الخزانة المنبر وهو من المنابر المرتفعة الكثير الدرج المصنوع من جيد الخشب مزينا بالنقوش البديعة الجميلة يعتمد في أسفله على عجلات حديدية يندفع بها إلى مخدعه في الجدار ويغلق عليه بباب يتساوى مع الجدار فيحسبه الناظر خزانة أو بابا من الأبواب، ثم على يسار هذا المنبر ذلك المحراب الجميل الذي يعد آية من آيات الفن المغربي البديع لما فيه من النقوش الرائعة، والألوان البراقة المذهبة الصفراء تؤازرها أخرى حمراء وخضراء كل ذلك في تناسب وإتقان يسر الناظرين، ويشمل المحراب من السقف إلى الأرض، وفي أعلاه مما يلي السقف نقش بخط جميل مذهب، (بسم الله الرحمن الرحيم، حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) وأما على باب المنبر وباب المقصورة فقد كتب بخط كوفي عريض مربع بلون ذهبي كلمة الشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هذا علاوة النقش والزخرفة ذات الألوان الساحرة، وجاء في تاريخ تطوان أن ثرية عظيمة نحاسية بلغت حدا كبيرا من حسن الصنعة كانت معلقة أمام المحراب في سقف المسجد ذهبت بها يد الضياع فيما ذهبت به، ويقال أن الجامع الكبير أصابه ما أصاب غيره من مساجد تطوان من المحن بعد استيلاء الإسبان على البلاد، فإنهم عانوا فيها فسادا وهوانا وداسوا المساجد، واتخذوها مرابط وإصطبلات لخيولهم فأصابها من التلف والتشويه ما أصابها فالله أعلم.
وبعد المحراب وعلى يساره المقصورة، وهي عبارة عن دار صغيرة تحتوي على حجرة للجلوس وصحن صغير فيه فوارة للماء، ومرحاض، وبيت صغير للمتاع، ومكتبة قيل عنها أنها كانت من أهم خزائن الكتب المغربية، وكانت معروفة بمكتبة الجامع الكبير، وكانت تتوفر على مقدار هام من المخطوطات التي عصفت يد الحدثان بأهمها، وكانت تلك المكتبة عدة قوية يعول عليها المدرسون وطلبة العلم، فتتبعها الزمن بالتلف، وما سلم من تلك الكتب نقل مع إدارة المعهد الإسلامي الديني إلى دار ابن عبود بالملاح البالي حيث هي إلى الآن، وتلك مكتبة الجامع الكبير فيما مضى، تحولت الآن مكتبة المعهد الأصلي ومما يفتخر به الجامع الكبير أنه كان أول إدارة ومدرسة للمعهد الديني حتى نما وترعرع بين سواريه، ولا يزال بعض فصوله في الجامع حتى الآن.