أسّس الزاوية الوزانية، مولاي علي الكبير بن مولاي التهامي في “غمارة” غداة وفاة والده (1127 هـ/ 1715 م) وتولي مولاي الطيب مشيخة الزاوية، إذ رحل بعد وفاة أبيه مولاي التهامي

تقديم -عبد الرزاق المراكشي  le12

“المغرب بلد الأولياء الصّالحين”.. مقولة تعكس المكانة الخاصّة التي يحظى بها التصوّف في المملكة المغربية، التي يمتدّ فيها الفكر والسلوك الصوفيان إلى أزمنة بعيدة..

لو كنت مواطنا مغربيا، لربّما ساقتك الأقدار لأن تُجاوِر أحدَ هذه المباني الصّغيرة المسمّاة “الزاوية”. فيها تقام الصّلوات الخمس في أوقاتها، باستثناء صلاة الجمعة. كما يُتلى في هذه “الرّباطات” القرآن وتقام العديد من العبادات التعبّدية الأخرى.

بمناسبة شهر رمضان المبارك، تقترح عليكم “Le12.ma” رحلة تاريخية في رحاب أشهر الزوايا والطرق الصّوفية في المغرب.

أسّسها مولاي علي الكبير بن مولاي التهامي في “غمارة” غداة وفاة والده (1127 هـ/ 1715 م) وتولي مولاي الطيب مشيخة الزاوية، إذ رحل بعد وفاة أبيه مولاي التهامي بعامين نحو غمارة مصحوبا بأعيان القبيلة الذين كانوا قد أخذوا العهد من أبيه بأن يُسلّمهم إياه للتعلم على يديه أصول الطريقة والتبرك به، فنزل في 1717 رفقة مرافقيه بجبل “أمطراس”، القريب من “الشرافات” حيث يوجد أقدم مسجد في المغرب. ثم التفّ حوله خلق كثير من المحبين الذين أتوا من كل فج عميق من بلاد غمارة والمناطق المجاورة لها، مستجيبين لدعوته إلى الله المبنية على الكتاب والسنّة ومحاربة البدعة.

عمل مولاي علي الكبير على نشر الفكر الصوفي الصافي المتنور في جميع مناطق غمارة بواسطة مريديه الذين أحبّوه وأخلصوا في الاقتداء به والنهل من منهله، وفكر في الرحيل عن “أمطراس” مخلفا فيها بعض أبنائه، مارا بمرتفعات الجبهة ونواحيها في اتجاه ساحل غمارة، ثم استقر في “تاغصا”، الحاضرة الصغيرة الشهيرة التي تطل على البحر مباشرة، ولم يلبث فيها إلا قليلا، ثم غادرها تاركا فيها ضريحا لابنه سيدي أحمد الخليل الذي وافته المنية بها وهو صغير حيث دفن بداره، متوجها نحو “تيكيساس” البحرية أيضا. فأعجب بتلة سميت بعد استقراره بها “بواحمد” حيث لم يعرف لها من قبل اسم سوى ” تيكيساس”، وفق مقالة لأبي هاشم الوزاني. واستقر بـ”بواحمد” استقراره النهائي بأرض غمارة، وبنى فيها وفي المنطقة حضارة صوفية انتشر صيتها وتأثيرها في كل الربوع الغمارية، فزارته بها أخته “لالة الهاشمية” الشهيرة، التي وافتها المنية في 1151 هـ، والتي كانت على خطى أبيها مولاي التهامي ومنهجها في التصوف شبيه بمنهج “رابعة العدوية”، صاحبة مذهب العشق الإلهي.

في بلدة “بوأحمد”، وتيمّنا بولد المؤسس أحمد، توافدت عليه بحسب المصدر نفسه، الجموع الغفيرة من الأهالي أكثر من أيّ مكان مضى، فأسّس فيها (بواحمد) زاويته الرئيسية ومسجدا جامعا وحضارة سادت قرونا عديدة.

ومما تميزت به زاوية مولاي علي الكبير تربيتها للمريدين وتحفيظها للقرآن الكريم وقيامها بالصلح بين المتخاصمين واستقبالها للأعيان ولعامة الناس وإكرامها لحمَلة كتاب الله وإيوائها للمحتاجين والمحرومين واللآجئين الفارّين من بطش أعدائهم، فكانت ملاذا آمنا لكل من قصدها واستعاذ من خصومه والظروف القاسية بعد الله بها. وشهدت غمارة ذروة قوتها وتماسكها وفيوضات خيراتها.

كما تأسست في الزاوية كتائب جهادية إبان الثورة الجهادية الريفية، انضوت تحت لواء المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي، إذ ترأس بعض أشرافها كتائب تولت مَهمّة الدفاع عن الأحواز وصدّ هجومات الجيوش الإسبانية الغادرة بتنسيق مع زاوية سيدي احميدو الوزاني في الريف .

وعلى سيرة الجد المؤسس مولاي علي الكبير بن مولاي التهامي بقي الأبناء والأحفاد، فمنهم من هاجر إلى مدن وقرى شتى، ومنهم من استقر ببواحمد مرابطا فيها حاميا لها، محافظا على إرث الأجداد إلى يومنا هذا، رغم ما طرأ من تغير في أحوال العباد والبلاد.

صارت “الزاوية الوزانية” محجّا للمريدين من كل بقاع العالم، وهو ما أعطى وزّان تلك اللمسةَ الروحية الناصعة البياض، إلى جانب ما تشكله من حضور علمي وثقافي وحضاري كبير، ولا يمكن للمتأمل العابر أن يغفل حضور الطبيعة وهي ترخي ظلالها البهية على وجودها عبر مراحل تواجدها كحاضرة في الشمال المغربي، عاشت لحظة اعتبرها سكانها تاريخية وهي إعلانها محافظة تابعة لجهة طنجة تطوان الحسيمة بدل الانتماء السابق لجهة الغرب.

وتحيلنا الإشارة السابقة لتضارب المعلومات حول تاريخ تأسيس وزان على الروايات الثلاث التي تعدّ فرضيات حاولت إعطاء الدقة لهذه المعلومة الأساسية في وجود المدينة، التي تقع في الشمال الغربي من المغرب، وتتربع في مقدمة جبال الريف جنوب واد لوكوس، فمن قائل إنها نشأت في العهد الروماني، مستدلا على ذلك بكون كلمة وزان هي اسم ولي عهد أحد أباطرة الرومان، ومن قال كما ورد في كتاب “الروض المنيف” إن مئذنة المسجد الأعظم بوزان هي في الأصل من وضع الفاتح لشمال أفريقيا موسى بن نصير، في عهد بني أمية.

من تاريخ التأسيس إلى التسمية التي دخلت بدورها دائرة الحيرة والمعلومات المتضاربة التي تفيد بهذا التفسير أو ذاك، ومنه المرتبط بتأسيس الزاوية الوزانية على يد الولي الصالح (متصوف) مولاي عبد الله الشريف، وآخر يفيد بأنه لاتيني ويعود إلى أحد أباطرة الرومان الذي أطلق عليها اسم ولي عهده، ناهيك عن التفسير بجمع الحروف الأولى من كلمات روحية عقائدية، أو كون الاسم مشتقا من الكلمة العربية الوزان، وهو لقب شخص كان يضع موازين له بمدخل المدينة بالمحل المعروف حاليا بالرمل، وفي رواية أخرى يقال إن أصل اسم وزان هو مختصر من كلمة “واد الزين” أو “واد زاز” وهو اسم نهر صغير ينساب بين المرتفعات الشمالية الساحرة بحق مثل باقي المناظر الطبيعية التي تهديها المدينة لزائرها.

ذلك البعد الروحي الذي صارت عليه وزان لا يقاوم بالنسبة لعشاق الروحانيات والانتماء إلى نبض الزوايا المغربية الحافظة والمحصنة للدين الإسلامي في المغرب والمقاومة ضد المستعمر، ومنها الزاوية الوزانية، التي على إثرها أصبحت المدينة عبارة عن “دار الضمانة”، وهي كلمة تفيد بالطمأنينة والراحة النفسية والأمان الروحي والجسدي أيضا.

بالنسبة إلى السلف والخلف من سكان مدينة وزان، فإنه لا يوجد مكان أفضل لتسميته “ضريح دار الضمانة” أفضل من مرقد مؤسس الزاوية الوزانية، الذي تحول إلى أبرز مزارات المدينة كما أنه بديع التصميم والبنيان بما يزخر به من نفائس العامرة المغربية وفسيفساء الزليج الأصيل والنقوش التي تزين الواجهة الخارجية للضريح. من الحكايات التي تجسد أن “الدار الضمانة” هي فعلا كما وصفت بالضمان، هي واقعة لجوء المجاهد المغربي في الريف عبد الكريم الخطابي إلى الزاوية الوزانية في “سنادة” في الريف سنة 1926 م، واستضافه احميدو الوزاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *