حين رحل أيوب إلى بريطانيا، وظللت على صلة به، أو لنقل هو الذي ظل على صلة بي، كنت أكتشف فيه أشياء أخرى جديدة، من ضمنها شغفه الكبير بمهنته، وقدرته على أن يصبر على التعلم. 

*يونس الخراشي- كاتب صحفي 

لطالما سمعت، أو قرأت، بأن لكل من اسمه نصيب. ثم اختار الله عز وجل ولدي أيوب الريمي، الجميل والمبارك، ليؤكد لي أن ذلك صحيح مليار في المائة. ذلك أنه أعطاني درسا لا ينسى أبدا في الصبر والإيمان والاحتساب.

بكيت ولدي أيوب قبل اليوم بمدة طويلة. فُجِعت حينما بلغني خبر مرضه. صُدمت. ثم تقبلت، ورحت أسأل الله له الجبر، والشفاء، على أنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو الذي يبدل قدرا بقدر، سبحانه، تنزيها وتعظيما، في صفاته وأفعاله وأقواله.

ومع مرور الأيام، وحين كان المرض يشتد بولدي أيوب، وتنقله زوجته الراشدة الكريمة، سارة ايت الخرصة، إلى المستشفى، كان يفاجئني بصبره الكبير، واحتماله غير المحدود، بل وبفرحه بما قضى الله، وصوته يصلني عبر “واتساب”، وهو يقول لي، بجلد، واحتساب، وإيمان، ويقين:”الحمدلله، الحمدلله، الحمدلله”.

لم يشتك ولدي أيوب، يوما، من المرض، أو يتبرم بما هو فيه من ألم، أو يبدي الامتعاض. أبدا. أبدا. أبدا. وهو ما كان يمدني بالدرس تلو الدرس، ويعزيني في ما هو فيه، ويجعلني أثق أكثر فأكثر في ما عند الله من رحمة ورحمانية وسَعَة.

كنت، في بعض الأحيان، أسأل نفسي، أينا المريض بالفعل؟ ذلك أن ولدي أيوب يبدو صابرا أكثر مني بكثير، محتسبا، وموقنا، بإيمان ويقين بلا ضفاف. لا يسألني سوى الدعاء، ويقول لي إنه يقرأ دعوات الفجر، فتمده بإحساس جميل، وتوسع عليه، وتفسح له، وتسكن ألمه، وتنعش أمله.

ما فعله بي ولدي أيوب في تلك الأثناء هو أنه ملأني صبرا، حتى أنني شعرت برضى عجيب ينزل مع قضاء الله، والنعي يبلغي هذا الصباح. سكينة، وهدوء، وطمأنينة إزاء وفاة هذا الولد المبارك، الذي له فتوحات روحانية عجيبة، حكاها لي، وتحاكينا بها، لمرات، طيلة السنوات الماضية، منذ أن تعرفت عليه في يومية “أخبار اليوم”، ثم وهو يرحل إلى بريطانيا، حيث زادت الصلة أكثر، إلى أن صارت عروة وثقى لا انفصام لها.

أيوب خُلِقَ دمثا. متخلقا. مؤدلا. جميلا. حييا. هادئا. بشوشا. يملأ المكان حوله طيبا وطيبة وطاقة إيجابية. ويعرف كيف ينسج العلاقات، ليبقيها نابضة، وذات مغزى. وكل الذين نعوه، أو عزوا أسرته، ولاسيما زوجته، سارة أيت الخرصة، المرأة العظيمة، الصابرة المحتسبة، قالوا عنه أشياء جميلة، جعلت الآخرين يستشعرون عظمته، ومقامه، وأي بشر هو.

آخر كلمة قالها لي ولدي أيوب قبل أن يسبقنا، نحن الذين كتب الله لنا أن نبقى بعض الوقت على ظهر الدنيا، هي “الرضا”. 

كنت أسأله:”كيف بقيتي أولدي؟ شوية؟”. وفاجأني، مجددا، كما ظل يفاجئني في أيامه الأخيرة، وهو يقول لي:”شوية الحمد الله. الحمد دائما.. الرضا”.

أي مقام هذا يا أيوب. وأي إيمان أيها الولد المبارك الجميل. وأي يقين هذا أيها الصابر المحتسب. وأي وعد لك مع الله أيها الذي له نصيب كبير من اسمه، في الصبر والاحتساب والأدب مع الله. فمثلما أن نبينا أيوب عليه الصلاة والسلام تأدب مع ربه، فلم يسأله الشفاء، واكتفى بالقول:”مَسَّنِیَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّ ٰ⁠حِمِینَ”، فقد اكتفى أيوب الريمي بالقول:”الحمدلله دائما.. الرضا”، دون أن يطلب شيئا.

كلمني صديق مشترك من مدينة أكادير، ظهر اليوم، وهو يبكي. مع أنه لم يعرف أيوب إلا عبر فيسبوك. 

قال إنه فجع بهذا الفقد المؤلم. وبكى حتى تحشرجت العبارات في حلقه، ولم يعد يدري ما يقول. وقلت له، أما أنا، فقد أنزل الله سكينته علي، وطمأنينة من حيث لا أدري، ولست أزكي ولدي أيوب، ولكني أشهد له اليوم وغدا حين يقوم الناس لرب العالمين.

هو من بين الشباب الذين تنبأت لهم، حين جاء إلى يومية “أخبار اليوم”، بكونه سيذهلنا جميعا. 

وبالفعل. فسرعان ما صار أيوب اسما مشهودا. ليس فقط لأنه متسلح بالمعرفة، ويملك أدوات المهنة، وهو المتخرج من المعهد العالي للإعلام والاتصال، بالرباط، بل ولأنه، وهذا الأهم، حيي، ومؤدب، ومتخلق، وابن أصول، ولبق، ويعرف حدود الأشياء، ومتى يتعين الكلام، وأين ينبغي الصمت، وكيف تُنْهى العلاقات، وأيها يتعين وصله.

حين رحل إلى بريطانيا، وظللت على صلة به، أو لنقل هو الذي ظل على صلة بي، كنت أكتشف فيه أشياء أخرى جديدة، من ضمنها شغفه الكبير بمهنته، وقدرته على أن يصبر على التعلم. 

لم يتوقف عن طلب العلم، ولا توقف عن البحث في مهنته. وتسلح بالكثير من الصبر ليتجاوز مواقف صعبة للغاية، وكي يستجيب لشغفه،. ويعلم الله كم أعطى للإعلام، الذي يسرق منا حياتنا، بما يتطلبه من جهد وبذل.

وفي مرات كثيرة كنت أطلب عنده النصح، مثلما يطلبه عندي. 

وأسأله كيف يرى المغرب من هناك، وما هي الأخبار التي عنده، وأجد حلاوة حين يشرع في تحليل الأحداث التي تمر بنا هنا من هناك، حيث المعطيات تبدو أكثر موضوعية، والأرقام أكثر دقة، وجلال وصفاء.

ثم جاء المرض. وهو قدر الله. مثلما بقية الأشياء التي تحدث لنا في الحياة. ولا يسعنا إلا أن نستقبلها بالرضى. فكان رضيا، مؤمنا، محتسبا. ولعله أحس بدنو أجله، فارتأى أن يزور البيت الحرام، ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستعد للرحيل.

منذ الساعات الأولى من صباح اليوم، ظللت أستقبل مكالمات، ورسائل نصية، تعزيني، بشكل من الأشكال، في وفاة أيوب. وهناك من نعاه لي. وهناك من بكى. وهناك من قال إنه فُجع. ومن قال إنه صدم. وكلهم قال إن أيوب ترك بصمة في قلبه، بتلك الابتسامة الهادئة، والخلق الكريم، والقدرة على إشاعة الطاقة الإيجابية من حوله.

أيها الولد المبارك. لا أملك إلا أن أكون رابط الجأش أمام هذا الخطب الجلل، مطمئنا لك وعليك، مؤمنا بأنك في رحمة الله، ومحتسبا موتك على الحي القيوم الذي اختارك لتُبْتلى، واختار لك أن تصبر وتحمده، وتكون من الذين يصح فيهم قول الله تعالى:”وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِینَ”، وقوله تعالى:”مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ رِجَالࣱ صَدَقُوا۟ مَا عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ عَلَیۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن یَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا۟ تَبۡدِیلࣰا ۝٢٣”.، وقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:ﷺ: أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لهُ أَربعةٌ بِخَيرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجنَّةَ (الراوي: عمر بن الخطاب • البخاري، صحيح البخاري (٢٦٤٣))

رحمك الله أيها المبارك. وألحقنا بك صالحين مصلحين، غير ضالين ولا مضلين، والعزاء الكبير للزوجة الصابرة المحتسبة، سارة أيت الخرصة، ولكل أفارد الأسرة، في مدينة القنيطرة، ولكل الأهل والأصدقاء والزملاء، عبر العالم.

إنا لله، وإنا إليه راجعون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *